بقلم: أ. كريم قرط، باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله
أثارت الأزمة الروسية – الأوكرانية، حتى قبيل تحولها لحرب عسكرية، موجة من التقديرات والتحليلات والرؤى التي اعتبرت أنه سيكون لها انعكاسات وتأثيرات على النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي 1990، وعلى مختلف العلاقات والتفاعلات الدولية والإقليمية غير المحصورة في منطقة شرق أوروبا.
وتعد "إسرائيل" واحدة من أكثر الدول تأثرا بتطورات هذه الأزمة في مجالات مختلفة، ولذلك انشغلت المراكز والمؤسسات البحثية والاستراتيجة الإسرائيلية بتحليلها وتأثيرها على "إسرائيل" منذ بداية تصاعدها وتوترها.
من أبرز المؤسسات التي أولت اهتماما ملحوظا لهذه الأزمة وتأثيراتها؛ معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيي INSS الذي يعود تأسيسه للعام 1977 في جامعة تل أبيب باسم مركز "يافيه" للأبحاث الاستراتيجية، في أعقاب حرب 1973 نتيجة عدم وجود مراكز أبحاث غير الموساد الإسرائيلي في حينها ليجري تقديرات وتحليلات تستند عليه سياسة الحكومة الإسرائيلية. وقد توسع المركز في عام 2006 ليصبح معهد أبحاث الأمن القومي الذي يعتبر أحد أبرز المؤسسات التي تحظى باحترام السياسيين الإسرائيليين، وصاحب تأثير مهم في تشكيل المواقف والتحركات الدولية الإسرائيلية.[1]
أصدر المعهد في 26فبراير2022 ورقة تقدير[2] موقف لآثار الأزمة على إسرائيل بعنوان "الحرب الباردة تسخن: تأثيرات على إسرائيل" من إعداد إلداد شافيت، العقيد السابق في الاستخبارات الإسرائيلية، وأودي ديكل، العميد السابق في الجيش لإسرائيلي أيضا، بالإضافة إلى أنات كورز الباحثة في المعهد. وقد تناولت الورقة التأثيرات المحتلة للأزمة على "إسرائيل" على المستوى الدولي، والإقليمي، والساحة السورية (الجبهة الشمالية).
يضع المؤلفون في الختام عدة توصيات للحكومة الإسرائيلية، على أساس أن تأثيرات الأزمة تحمل في طياتها مكاسب وخسائر لإسرائيل في المستويات المختلفة، ولذلك فإن خيارات "إسرائيل" ستكون محدودة وعليها اختيار البديل الذي يحقق لها أعظم مكاسب وأقل خسائر، وذلك لا يعني أن اختيارها لبديل معين لن يكون له تبعات سلبية، ولكنها ستكون أقل على المدى البعيد والمتوسط من السلبيات المتأتية من اختيار البديل الذي يراعي مصالح إسرائيل الحالية.
أبعاد الأزمة
يرى المؤلفون أنه بغض النظر عن ما إذا كانت روسيا ستغزو أوكرانيا، أم أنها ستتوصل لتفاهمات مع "الناتو" حولها، فإنه سيكون لهذه الأزمة انعكاسات على النظام الدولي الذي تشكل منذ ثلاثة عقود بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولذلك تقع دول الشرق الأوسط، ومن ضمنها إسرائيل، في معضلة، فمن جانب أول عليها الحفاظ على علاقات جيدة مع الإدارة الأمريكية، ومع أنها بدأت تقلل انخراطها في المنطقة، إلا أن العديد من الدول ما زالت ترى العلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة عنصرا مهما في أمنها القومي. ومن جانب آخر، تسعى هذه الدول للحفاظ على العلاقات الجيدة مع روسيا، في ضوء سعيها للحصول على الأسلحة الروسية وعقد صفقات سلاح متقدمة معها، عدا عن أن روسيا منخرطة في قضايا المنطقة وخصوصا في الأزمة السورية.
بالنسبة لإسرائيل، هناك تأثيرات للأزمة الأوكرانية على المصالح الإسرائيلية على مستويات مختلفة:
المستوى الدولي، ستطلب الولايات المتحدة من إسرائيل الانحياز الحاسم للموقف الغربي ومشاركته في العقوبات التي ستفرض على روسيا، وليس من المرجح أن تتفهم الولايات المتحدة مصلحة إسرائيل في الحفاظ على علاقات متوازنة مع روسيا أو أن تقف على الحياد كأقل تقدير. ومن المرجح أن الولايات المتحدة في النهاية ستحاسب دول المنطقة، ومن ضمنها إسرائيل، التي لا تتطابق مواقفها مع الموقف الأمريكي في الأزمة الأوكرانية.
ومع أن هذه الوضع سيعرض مصالح إسرائيل للخطر نتيجة تدهور علاقاتها مع روسيا، ما سيأثر على التفاهمات والتنسيق بينهما في السياحة السورية، إلا أن فرصة يمكن أن تتنتج عن هذه الأزمة تتمثل في أن الولايات المتحدة ستدرك أهمية منطقة الشرق الأوسط كونها تشكل بديلا عن روسيا في تصدير النفط والغاز لأوروبا بدلا عن روسيا، ما يعني عدم الانسحاب الأمريكي من المنطقة بشكل سريع وكامل.
بدأت أمريكا في اتخاذ خطوات في هذا الاتجاه، وخصوصا مع قطر التي أعلنت عنها حليفا غير عضو للناتو. وقد طالبت من السعودية زيادة الإنتاج ولكن لحد اللحظة لم تلبي السعودية هذا الطلب، ولكن من المحتمل أن تضاعف السعودية إنتاجها لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة. كما أن احتياطيات غاز شرق المتوسط سيكون من البدائل المحتملة للغاز الروسي، وربما لا تستطيع مصر وإسرائيل الامتناع عن زيادة الإنتاج إذا طلبت منها الولايات المتحدة، بديلا عن خط نورد ستريم 2 و1.
المستوى الإقليمي، من المحتمل أن تؤدي الأزمة الأوكرانية إلى عدم استقرار عدد من دول المنطقة، وذلك في ضوء احتمال تأثر وتراجع إمدادات القمح والحبوب التي تعد روسيا وأوكرانيا من أهم مورديها للدول العربية، إلى جانب احتمال ارتفاع تكاليف الطاقة والنقل والشحن. وتترافق هذه المشاكل مع مشاكل أخرى تعاني منها الدول العربية مثل الازدياد السكاني، وارتفاع معدلات البطالة خاصة بين الأجيال الشابة، وتأثير التغير المناخي، ما سيؤدي إلى عجز تلك الدول عن منع التدهور في أوضاعها الداخلية، ما قد يعني أن الدول العربية ستواجه احتجاجات داخلية وعجزا عن تلبية المطالب الشعبية. بالنسبة لإسرائيل ستؤدي هذه المشاكل إلى ازدياد التحديات الأمنية الإقليمية التي تواجهها، عدا عن إسرائيل نفسها ستواجه مشكلات ارتفاع تكاليف المعيشة. ومن ناحية أخرى، يمكن للأزمة الأوكرانية أن تعزز نزعة الانسحاب الأمريكي من المنطقة وعدم التزامها بأمن حلفائها، ومن أهمهم إسرائيل، لأنها ستكون منشغلة في الصراع داخل أوروبا.
مستوى الجبهة الشمالية، من المحتمل أن تقوم روسيا باستغلال مسرح الصراع في سورية لإظهار قدرتها على نقل الاعتداءات من شرق أوروبا إلى مناطق أخرى. وعليه يمكن أن تقوم روسيا بمنع إسرائيل من قصف المواقع السورية أو التضييق عليها في ذلك، وهو ما بدأت روسيا بالقيام به فعلا. كما أن عزل روسيا وتشديد العقوبات عليها سيكون له نتائج سلبية على إسرائيل، لأن روسيا ستسعى للرد على حلفاء أمريكا، ولذلك يمكن أن توقف روسيا التنسيق العملياتي مع إسرائيل في سورية، وأن تعترض الغارات الإسرائيلية على سورية، كما أنه من المحتمل أن تتوقف روسيا عن جهود الحد من الوجود الإيران في سورية، وكذلك يمكن أن تشجع إيران على استخدام أذرعها العسكرية في استهداف القوات الأمريكية في سورية، وحتى أهداف إسرائيلية.
توصيات للحكومة الإسرائيلية
تختم الورقة بجملة من التوصيات للحكومة الإسرائيلية التي من الممكن أن تساهم في تقليل المخاطر من هذه الأزمة وتأثيراتها واستخلاص المكاسب والفرص منها. حيث يرى المؤلفون أن على إسرائيل الانحياز للولايات المتحدة بدون تردد، وعدم إحداث توتر معها، لأن الولايات المتحدة تشكل مظلة سياسية دبلوماسية حساسة لأمن إسرائيل، والالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل لا يترك مجالا لها سوى الوقوف بجانب الولايات المتحدة. حيث يرى المؤلفون أنه إذا حدث توتر بين إسرائيل والولايات المتحدة حول الأزمة الأوكرانية والموقف من روسيا، فإنه من المحتمل أن يتوسع وتطالب الإدارة الأمريكية من إسرائيل تقليل علاقاتها مع الصين، ولذلك إذا طلبت الولايات المتحدة من إسرائيل أن تزيد إنتاجها من الغاز فعليها أن لا تمتنع. وفي ضوء احتمالية تشكل معسكرين بقيادة الولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى، فإن على إسرائيل أن تعلن صراحة أنه ستقف في حلف الولايات المتحدة ولو على حساب مصالحها مع روسيا.
وفي ذات السياق، يرى المؤلفون أنه في ضوء احتمال التوصل لاتفاق نووي مع إيران في الأيام المقبلة، فإن على إسرائيل تجنب المواجهة مع أمريكا ومعارضة الاتفاق حتى لو تم التوصل لاتفاق، حتى لا تحدث أي توتر مع الإدارة الأمريكية.
ومن جانب آخر، على إسرائيل تجنب الاحتكاك مع روسيا قدر الإمكان، وعليها أن تحافظ على قنوات تواصل معها في سبيل منع حدوث احتكاك في سورية، كما أن على إسرائيل الامتناع عن تصدير أسلحة لأوكرانيا، أو الدول المجاورة لها، وخصوصا مضادات الدروع، وكذلك منع الولايات المتحدة من تزويد أوكرانيا بمنظومة القبة الحديدية الإسرائيلية حتى لا تتوتر علاقاتها مع روسيا. ولكن في نفس الوقت على الجيش الإسرائيلي الاستعداد لسيناريو انقطاع التنسيق مع روسيا في سورية.
وعلى الصعيد الإقليمي، على إسرائيل اتخاذ جهود لتعزيز علاقاتها مع دول الإقليم وإرسال رسائل إيجابية لها، استعدادا لصدمة عالمية جراء الأزمة، وتحسبا لأي انتهاك لاتفاقيات التطبيع، وهذا ما سيوصل رسالة للولايات المتحدة أن إسرائيل لا تقف إلى جانبها فقط وإنما تعمل لتعزيز جبهة إقليمية داعمة للسياسة الأمريكية. كما يجب على إسرائيل أن تستجيب بشكل إيجابي لمشاعر التقارب المتجددة التي تبديها تركيا، لأن تركيا عضو ناتو مهم، ومن منظور أوسع فإن تعزيز علاقات إسرائيل مع تركيا سيعزز موقف إسرائيل الاستراتيجي وموقعها كفاعل مهم في الإقليم.
خاتمة
تظهر التوصيات السابقة أن إسرائيل تستشعر أن هذه الأزمة ليست أزمة عابرة وأنه يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة على أمنها ومصالحها، وأنها يمكن أن تؤدي لتدهور خطير في علاقتها مع الولايات المتحدة في ضوء أن الولايات المتحدة تتعامل في هذه الأزمة ضمن منطق "من ليس معي، فهو ضدي". ولذلك تسعى إسرائيل للحفاظ على علاقتها مع الولايات المتحدة وتجنب أي توتر معها ولو تطلب منها ذلك تقديم تنازلات مهمة في ملفات تعتبرها مصيرية.
ومن ناحية أخرى، ففي ضوء هذه المعطيات والتوصيات يمكننا فهم العديد من السياسات والتحركات الإسرائيلية الأخيرة في المنطقة، فالملاحظ أن إيران أصبحت على شفا العودة إلى الاتفاق النووي مع الغرب دون أن تسمع أي أصوات احتجاج أو تهديد إسرئيلي رسمية على الاتفاق.
وفي ذات السياق، شهدت الأيام القليلة الماضية عددا من الزيارات الدبلوماسية لعدد من السؤولين الإسرائيلين السياسيين والعسكريين إلى البحرين والأردن، عدا عن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت لروسيا خلال الحرب، وزيارة الرئيس الإسرائيلي لتركيا لتجديد العلاقات معها خلال هذه الفترة. وتأتي هذه التحركات الإسرائيلية في إطار السعي للتقليل من الآثار المحتملة للأزمة الروسية – الأوكرانية المتصاعدة.
[1] العساس: معهد أبحاث الأمن القومي: ميزان الموقف الإسرائيلي، https://alassas.net/3392/
[2] Eldad Shavit, Udi Dekel, and Anat Kurz. The Cold War is Heating Up: Implications for
Israel, INSS, Special Publication, February 23, 2022. https://www.inss.org.il/publication/russia-usa-tenion/
© جميع الحقوق محفوظة
(طباعة)