بقلم: أ. سليمان بشارات*
في العام 1921 شكلت ابنة مدينة القدس المحتلة “زليخة الشهابي”، أول اتحاد نسائي فلسطيني؛ لمناهضة الانتداب البريطاني والتصدي للمشروع الاستيطاني الصهيوني، لتشكل بذلك واحدة من نماذج القيادة والمبادرات اللاتي تمثل قدرة المرأة الفلسطينية على اتخاذ وصناعة القرار في بلد يرزح تحت الاحتلال.
ما بين هذا التاريخ والواقع، يسجل قرن من الزمان خريطة من الأرقام والمعطيات التي تعيد إلى الأذهان واحدة من الأسئلة الجوهرية، لماذا تغيب المرأة الفلسطينية عن صناعة القرار بالرغم من عمق تاريخها المتجذر وطنيا وحضورها القوي مجتمعيًا؟ هذا السؤال يدفع باتجاه محاولة القراءة الأكثر عمقا في المعطيات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني المنشورة في أيلول/سبتمبر 2020، والتي تحمل الكثير من الدلالات في بعديها المجتمعي وصناعة القرار.
محددات معيارية
في محاولة القراءة وفهم طبيعة الفجوة للوجود الواقعي للمرأة الفلسطينية في المجتمع، وانعكاس هذا الوجود على قدرتها في صناعة القرار، فإنه من المهم الانطلاق من محددات معيارية متعددة يمكن من خلالها قياس بعضًا من المؤشرات.
أولى هذه المحددات ينطلق من مكانة المرأة ودورها في القطاع التعليمي باعتباره قطاعًا يعكس طبيعة وحجم الوعي المجتمعي بعموميته، وكذلك يمثل الشريحة المثقفة التي من الممكن أن تكون واحدة من روافد صناعة القرار عبر إمداده بالخبرات الفكرية والتكنوقراطية التي تؤسس لمفهوم طبقة النخبة في المجتمع. ما يعني أن انعكاس نسبة حضور المرأة أو انخراطها في القطاعات التعليمية وخصوصًا في الصفوف الإدارية والقيادية فيها يعني أنها أصبحت ضمن دائرة صناعة القرار ومساهمة في رسم سياسات العملية التعليمية ومؤسساتها.
إلا أن الواقع الإحصائي يشير إلى وجود فجوة في نسبة النساء اللاتي حظين بالحصول على عضوية مجالس الإدارة أو مجالس الأمناء في بعض الجامعات والمؤسسات التعليمية الفلسطينية بواقع 10.7% مقابل 89.3% للرجال، فيما حرمت السيدات من ذات المنصب في مؤسسات أخرى. الحال نفسه ينطبق على كليات المجتمع المتوسطة؛ إذ تشير المعطيات إلى أن نسبة النساء اللاتي يتولين منصب رئيس الكلية يبلغ 17.6% فقط، فيما يتربع الرجال على ما تبقى من رئاسة الكليات الجامعية المتوسطة في فلسطين.
ويكتمل ذات المشهد في القطاع التعليمي، إذ تظهر فجوة تولي الفتيات منصب رئاسة اتحاد مجالس الطلبة في الجامعات الفلسطينية بنسبة 12% مقابل 88% للشباب الذكور، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم تكاملية الفجوة أو الحرمان من ممارسة الدور الريادي في القطاع التعليمي وبالتالي الغياب عن صناعة القرار أو رسم السياسات التعليمية.
النقابات ودمقرطة البناء
أما المحدد الثاني في محاولة قياس مشاركة المرأة في صناعة القرار بالمجتمع الفلسطيني، فينطلق من مؤشرات حضورها كركيزة أساسية في البناء الديمقراطي داخل المنظمات النقابية والاتحادات. إذ أن هذه الهياكل المؤسساتية تعلب دورًا محوريًا وأساسيًا في عملية البناء الديموقراطي للمجتمع.
ففي ظل وجود 566 منظمة نقابية واتحاد في فلسطين، وفقا لسجلات وزارة العمل، فإن ما نسبته 91.2% من هذه المنظمات يتولى رئاستها الرجال فيما لا تحظى النساء إلا على 8.8%؛ الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بوجود إشكالية فجوة حضورية للنساء في قيادة هذه المؤسسات والتي يمكن أن تنعكس بشكلها الواضح على مفهوم الشراكة الحقيقية في صناعة القرار المؤسسي والمجتمعي.
هذا الإشكال البنائي في المنظمات والاتحادات النقابية يندرج أيضًا على عضوية المنتسبين لها؛ إذ تشير البيانات إلى أن ما نسبته 75.5% من الحاصلين على عضويتها هم من الذكور، مقابل 24.5% من الإناث. وهو ما يمكن رصده من خلال العديد من النقابات الرئيسية إذ تبلغ نسبة النساء الحصالات على عضوية نقابة المحاميين 25.6% فيما يسيطر الرجال على باقي النسبة.
ذات الأمر ينسحب على نقابة المهندسين؛ إذ أن 74.6% من المنتسبين إليها من الرجال مقابل 25.4% من النساء. إلا أنه وللمرة الأولى يسجل لنقابة المهندسين انتخاب نقيبة لها من النساء؛ إذ جرى انتخابات المهندسة نادية الحبش في العام 2021، في حين تظهر البيانات وجود تفاوت كبير في عضوية مجلس إدارة الغرف التجارية الصناعية والزراعية ما بين حضور الرجال والنساء، حيث لا تتعدى نسبة حضورهن عن 1% فيما يسيطر الرجال على 99%.
فجوة الحضور السياسي
ينطلق المحدد المعياري الثالث لمناقشة فجوة الحضور وصناعة القرار للمرأة الفلسطينية في مناقشة الحضور داخل المؤسسات السيادية لاتخاذ القرار السياسي؛ إذ تشكل منظمة التحرير الفلسطينية الإطار الكلي الجامع لمجموعة من المؤسسات صانعة القرار السياسي ومرجعية التشريعات والقوانين للنظام السياسي. هذا الإطار وعلى الرغم من الحضور النضالي للمرأة الفلسطينية عبر التاريخ، إلا أنه لا يتعدى تمثيلها في المجلس المركزي الفلسطيني عن 5.4%، فيما نسبة النساء في المجلس التشريعي الفلسطيني 11.3% وهو ما يمكن أن يشكل تأكيدًا على طبيعة الفجوة حتى في ظل ما تم طرحه بما يتعلق بالكوته للمشاركة في الانتخابات التشريعية التي في غالبها لا يتعدى الحديث عن مجرد الحضور الرقمي.
الحال ذاته ينطبق على باقي تشكيلات منظمة التحرير وامتدادها المؤسسي؛ فنسبة النساء من بين أعضاء المجلس الوطني 10.6%، وفي اللجنة التنفيذية 6.7%؛ وفي سنة 2022 بعد انتخابات أعضاء جدد للجنة خرجت المرأة من اللجنة التنفيذية وأصبحت نسبتها صفر. فيما لم تتولى سوى امرأة واحدة منصب محافظ منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1993 وهي محافظة رام الله والبيرة.
وتتضح الفجوة أكثر كلما ناقشنا الحضور في المؤسسات الرسمية؛ إذ لا يتعدى حضور النساء ضمن عضوية مجلس الوزراء (الحكومة) عن 13.6%، وهو ما يتجلى بمفهوم الصورة النمطية لمواقع النساء في صنع القرار والذي يمتد ليصل إلى المؤسسات الخدماتية التي تمثلها البلديات والمجالس القروية والتي لا تتعدى نسبة مشاركة المرأة كعضو فيها ما بين 14.2% إلى 22.2% بحسب تصنيفاتها الإدارية، فيما لا تحظى وجودها في منصب رئيس البلدية أكثر من نسبة 1%.
أما في إطار القطاع العام فإن 11.3% فقط من المؤسسات والهيئات تترأسها نساء، و13.3% فقط من النساء من يحصلن على درجة مدير عام(A3 فأعلى)، وهو ما يظهر الفروقات والفجوة في المنظور القائمة على النوع الاجتماعي حتى في إطار الهيكلية الإدارية للمؤسسات العامة.
ولا يختلف الحال كثيرًا في ما تبقى من تشكيلة المؤسسات الرسمية؛ إذ أن السلك الدبلوماسي الفلسطيني طاله ذات الأثر، وتشير المعطيات إلى أن وجود النساء لا يتعدى 11.2% وهو ما ينعكس على طبيعة ونوعية مشاركتها في بناء السياسة الخارجية وتنفيذها بما قد يعزز المرأة الفلسطينية.
وذات الأمر فيما يتعلق بالنيابة العامة وقطاع القضاء حيث تظهر سيطرة الرجال على النسبة الأكبر من الحضور فيها ولا يتعدى وجود قاضيات شرعيات من النساء ما نسبته 8.3%، فيما ترتفع نسبتهن كعضو في النيابة العامة الشرعية إلى 71.4%. وتعود وينخفض حضورهن كوكلاء في النيابة بنسبة 24.8% ورؤساء نيابة بنسبة 11.6%، فيما تبلغ نسبة من يتقلدن منصب قاضيات في المحاكم الفلسطينية 18%.
أما في القطاع الأمني وبالمؤسسة الأمنية، فتشكل النساء من رئاسة المؤسسات ما نسبته 5.6%، فيما تبلغ نسبة النساء العاملات في الأجهزة الأمنية ما نسبته 6.2%، ويسيطر الرجال على ما تبقى من هذه النسب.
المرأة وقطاع الأعمال
في المحدد الأخير لفهم طبيعة الفجوة ما بين الحضور المجتمعي للمرأة الفلسطينية وصناعة القرار، يتضح أن النظام المالي الفلسطيني يغيب حضور النساء في منصب رئيس بنك أو مناصب رئيس مجلس إدارة البنوك مما يدل على ضعف الحضور للنساء الذي يمثل مفهوم السيطرة الذكورية أو البطرياركية الذكورية المهيمنة على إدارة هذه المؤسسات المصرفية والتي قد تكون امتدادا للمفهوم الثقافي الذي يعتبر المرأة غير قادرة على إدارة مناصب حساسة في المؤسسات المصرفية الكبرى.
وتشير المعطيات إلى أن نسبة حضور النساء في مجلس إدارة البنوك العاملة في فلسطين 11.3%، فيما تبلغ نسبة النساء من بين المدراء أو رؤساء الشركات المدرجة في البورصة لم يتجاوز 8.7%. أما النساء العاملات في هيئة رأس المال بلغت 35%.
فجوة صناعة القرار
إن قراءة أكثر عمقا وتحليلا للمعطيات المستعرضة في المحددات المعيارية السابقة، وبالرغم من أنه وفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن النساء يشكلن في المجتمع الفلسطيني ما نسبته 49%، يدلل إلى وجود حالة فجوة ما بين التوازن المجتمعي وحضورها كجزء من النسيج البنائي للمجتمع وما بين طبيعة الأدوار والمكانة التي تمنح لها فيما يتعلق بصناعة القرار.
هذا يتطلب ضرورة إعادة النظر في العديد من المفاهيم والسياسات المتعلقة في إشراك المرأة في صناعة القرار، فالمرأة الفلسطينية كان دومًا فاعلًا عبر محطات العمل السياسي والوطني الفلسطيني واستطاعت أن تترك بصماتها الواضحة في هذا المجال وبالتالي فإن مفهوم الاستفراد أصبح غير واقعي في ظل حالة التطور المجتمعي الذي يجب أن يؤسس على مفهوم تكاملية الأدوار والشراكة الحقيقية في رسم السياسات.
إن مطلب تقليص فجوة حضور المرأة في معادلة صناعة وإتخاذ القرار يتطلب مجموعة من العوامل؛ أولها توفر إرادة سياسية حقيقية من المشرع الفلسطيني في منح النساء المساحة التي يمكن من خلالها كسر الكثير من القيود المجتمعية والثقافية. أضف إلى ذلك الخروج من إطار مفهوم الارتباط الأبوي للانتماء التنظيمي والحزبي والعمل على دمقرطة الحالة المجتمعية وفقا للنهج الذي يفتح المجال أمام تعزيز المشاركة وفقًا لمعيار الكفاءة وليس الولاء أو الانتماء.
© جميع الحقوق محفوظة
(طباعة)