بقلم: كريم قرط، باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية
أثارت حادثة هروب الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع الإسرائيلي موجة من التساؤلات حول سبب نجاح عملية الهروب، وكيفية تمكن الأسرى من التغلب على منظومة الرقابة الأمنية المشددة في سجن يوصف بأنه الأشد تحصينا ورقابة؟.
ومع أن تفاصيل وحيثيات عملية الهروب أصبحت معروفة بعد تمكن الاحتلال من إعادة اعتقال الأسرى الستة ونشر محاضر التحقيق معهم، إلا أن التفاصيل المنشورة تضع علامات استفهام أكبر حول قدرة الأسرى على التغلب على منظومة الأمن والرقابة في ظل أن هناك الكثير من الإشارات التي كان من الممكن أن تثير ريبة إدارة السجن، ولكنها تجاهلتها، وهذا ما نحاول إعادة نقاشة بعد عام على الحادثة.
وإلى ذلك، فمنظومة السجون الإسرائيلية، بتصميمها المعماري المدروس، تتعدى مغزى العقاب على الأعمال التي قام بها المعتقلون، إلى كونها مراكز لتشكيل الوعي وإعادة إنتاجه لدى الأسرى بما ينسجم مع سياسات الاحتلال، كما نظّر لذلك الأسير وليد دقة في كتابه "صهر الوعي أوإعادة تعريف التعذيب". وهنا يصبح التساؤل أكبر، فالأسرى الستة لم يتمكنوا من اختراق منظمومة الرقابة فقط، وإنما تمكنوا أيضا من هدم جدار الوعي الزائف الذي تسعى سلطات الاحتلال لتشكيله لدى الأسرى.
ومع أن الاحتلال تمكن من إعادة اعتقال الأسرى الستة، وهو المتوقع بحكم الواقع الجغرافي الاستعماري بكل مكوناته الأمنية والرقابية، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن نفق جلبوع كان اختراقا لمنظومة الرقابة وآليات الضبط وصهر الوعي الإسرائيلية. وبناء على ما تقدم، فالسؤال الذي يُطرح هي كيف حدث ذلك؟
من الهندسة المعمارية للهندسة الاجتماعية
شيدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سجن جلبوع إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2004 بنمط هندسي معماري مختلف عن المعتقلات الإسرائيلية التي كانت سائدة فيما قبل، التي كانت تتشكل من الخيام والكرافانات في ظل جو غير مغلق بشكل محكم. وكان الهدف المعلن لإنشاء سجن جلبوع هو تخصيصه للأسرى ذوي المؤبدات والمحكوميات العالية خشية إقدامهم على محاولة الهروب، حيث صرحت مصلحة السجون الإسرائيلية عند افتتاحه أنه "لن يهرب أحد من جلبوع" بسبب الإجراءات الأمنية والرقابية المشددة فيها، ولذلك عرف جلبوع في إسرائيل بـ" الخزنة الحديدية".
صمم سجن جلبوع بناء على تخطيط هندسي مدروس وتجارب معمارية سابقة، فقد شارك خبراء أيرلنديون في إعداد مخططاته على طريقة السجون الأيرلندية التي يعتقل فيها أفراد من الجيش الشعبي الأيرلندي[1]. ومنذ العام 2004 بدأت السلطات الأسرائيلية بتحويل معظم سجونها ومعتقلاتها إلى نمط سجن جلبوع، وهو ما يعرف لدى الأسرى الفلسطينيين بـ" السجن المركزي".
يمكن ملاحظة أن التصميم الهندسي الحديث لسجن جلبوع يتشابه مع فكرة "البانوبتيكون" التي وضعها جيرمي بنتام، وهو سجن بتصميم دائري متعدد الغرف يعزل فيها المعتقلون عن بعضهم، ويتوسطه برج مراقبة مضاء بشكل دائم يستطيع مراقبة جميع الغرف بينما لا يستطيع المعتقلون رؤية إذا كان هناك حارس داخل البرج أم لا[2]. يخلق هذا البانوبتيكون شعوراً داخلياً لدى المعتقلين بأنهم خاضعون للمراقبة بشكل دائم، حتى لو لم يكن هناك حارس داخل البرج، وهذا ما يجعل المعتقل يمارس نوعاً من الضبط والرقابة الذاتية على نفسه. حيث يقول ميشيل فوكو، "أن هذا الجهاز الهندسي البنائي آلة لخلق ودعم علاقة سلطة مستقلة عن الشخص الذي يمارسها، وباختصار أن يؤخذ المعتقلون بوضعية سلطة يكونون هم حاملوها".[3] يسهم هذا التصميم المعماري في التخفيف من الإجراءات العقابية التي تتخذ بحق الأسرى لضبط سلوكهم، لأنه يعتمد على مبدأ الحضور الدائم للسلطة، حيث يقول جيرمي بنتام أن السلطة يجب أن تكون مرئية لا ملموسة. [4]
إن الأثر الرئيسي للبانوبتيكون هو الإيحاء للمعتقلين بوجود حالة واعية ومتواصلة من الرقابة عليهم وهو ما يؤمن وظيفة السلطة الإوتوماتيكية ويجعل الرقابة دائما في مفاعيلها وتأثيرها على المعتقلين حتى لو كانت متقطعة وغير دائمة في فعلها. ونتيجة لهذه العلاقة بين السجان والمعتقل تتوالد آلياً عبودية حقة من علاقة وهمية، بحيث تنتفي ضرورة اللجوء إلى وسائل القوة لإكراه المحكوم على السلوك الحسن. وهذا ما يجعل البانوبتيكون مختبراً لإجراء التجارب على المعتقلين وتغيير سلوكهم وإعادة تقويمه.[5]
يختلف تصميم السجون الإسرائيلية الحديثة عن البانوبتيكون بفضل التكنولوجيا الحديثة التي توظفها إسرائيل في منظومة سجونها، حيث استبدل البرج المركزي بالكاميرات الموجودة في كل زوايا السجن، واستبدلت أقفال الأبواب التي كانت تستدعي وجود السجان المادي لفتحها وإغلاقها بنظام إغلاق وفتح إلكتروني، وأجهزة رقابة وتنصت حديثة.[6] أصبحت السجون الإسرائيلية بؤر رقابة مكثّفة تهدف إلى خلق الوعي لدى الأسير الفلسطيني ليس في إطار السجن وحده؛ وإنما في حياته خارج السجن.
اختراقات مهمة
على الرغم من كل الإجراءات الرقابية والأمنية التي تتخذها إسرائيل في سجونها إلا أن هذه الإجراءات، على خلاف ما هو متوقع من أثر لهذه الرقابة، لم تمنع الأسرى الفلسطينيين من إحداث اختراقات مهمة في منظومة الرقابة الإسرائيلية في مجالات عدة. فقد نجح الأسرى الفلسطينيون بشكل متواصل في تهريب أجهزة الاتصال إلى داخل السجون، وتهريب النطف من السجون، والأهم من ذلك قيامهم بعدة محاولات للهرب، التي بلغت أكثر من 40 محاولة، من السجون الإسرائيلية وخصوصاً السجون الحديثة، وقد تكلل الكثير منها بالنجاح.
بدأت محاولات هروب الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال منذ بداية إنشاء إسرائيل لسجونها، حيث تمكن 77 أسيراً فلسطينياً وعربياً من الهرب من سجن شطة عام 1958 بعد تمرد الأسرى على إدارة السجن. [7] ولم تتوقف محاولات الهروب من السجن منذ ذلك التاريخ، ولم يسهم التصميم الجديد للسجون، ذو الرقابة المكثفة، في ردع الأسرى عن محاولة الهرب.
ففي عام 2014 جرت محاولة للهرب من سجن شطة، حيث أعلنت إدارة السجون الإسرائيلية أنها عثرت على نفق حفره الأسرى داخل حمام إحدى غرف سجن "شطة"، التي يتواجد فيها أسرى يقضون أحكاماً بالسجن مدى الحياة، بهدف الهروب من السجن. وفي عام 2014 أيضا أعلنت إدارة السجون الإسرائيلية عن إحباط محاولة هروب جماعية لأسرى فلسطينيين من سجن جلبوع، بعد قيام الأسرى بأعمال حفر في نفق من مرحاض إحدى الزنازين. وفي عام 2016 أعلنت إدارة السجون الإسرائيلية أنها أحبطت محاولة هروب أسير فلسطيني من "فتحة تهوية" في سجن "إيشل"[8].
وفي صبيحة يوم 6 أيلول 2021، استفاق العالم على خبر هرب 6 أسرى فلسطينيين من خلال حفرهم لنفق أسفل سجن جلبوع ، خمسة اسرى منهم منتمين لحركة الجهاد الإسلامي (محمود عارضة، محمد عارضة، يعقوب القادري، ايهم كممجي، ناضل نفيعات)، برفقة الأسير زكريا زبيدي عضو المجلس الثوري لحركة فتح، وقائد كتائب شهداء الأقصى سابقا.
ومن المثير للاهتمام أن مصلحة السجون الإسرائيلية كانت تصنف الأسرى الستة بأنهم "بمستوى خطورة مرتفع"، ووصفت 3 منهم بأن احتمال فرارهم من السجن مرتفع جدا وهم: أيهم كممجي، ومحمود عارضة، ويعقوب قدري، نظرا لقيامهم بمحاولات هرب سابقة لهم.[9]
فالأسير أيهم كممجي، على سبيل المثال، كانت هذه هي المحاولة الثالثة له للهروب من السجون. حيث سبقها محاولة هروب من سجن تابع للسلطة الفلسطينية في أريحا ومحاولة هروب أخرى من جلبوع في عام 2014.
وعلى الرغم من محاولات الهروب السابقة، فقد كان يقيم في زنزانة مع اثنين من السجناء الآخرين الذين كان يُخشى أنهما قد يحاولان الهرب.[10]
ومن ناحية أخرى فإن السجانين في سجن جلبوع أهملوا، مع الوقت، الكثير من الاحتياطات الأمنية التي يجب أن يتخذوها. حيث إن أهم السقطات الأمنية التي وقعت بها مصلحة السجون الإسرائيلية هي عدم استخلاص الدروس من محاولة الهرب من سجن جلبوع 2014، إذ إن المحاولة الأولى جرت في غرفة "3" قسم "2"، وهذه المرة في غرفة "5" من ذات القسم. والأهم من ذلك من ذلك أن مخطط الهروب عام 2014 كان هو ذات المخطط في عام 2021، ومع أن مصلحة السجون عملت على سد الفراغ الذين أسفل السجن بين الإسمنت والتراب عقب محاولة الهروب 2014، إلا أنها أوقفت العمل فيها بدون أسباب.[11]
وإلى ذلك، فقد تجاهل السجانون الكثير من الإشارات التي تثير الريبة حول عملية الهروب. فقد كشفت التحقيقات أن الأشهر الستة السابقة لعملية الهروب شهدت العديد من حالات انسداد الأنابيب بالرمال، لدرجة أن شاحنات الصرف كانت تأتي مرةً أو مرتين في الشهر لفك انسداد الأنابيب، وهو ما أثار بعض الشكوك لدى إدارة السجن، لكنها لم تتحقق من سبب ذلك.[12]
وأكثر من ذلك، ففي تموز 2021 ، تم إجراء تفتيش ليلي في الزنزانة، ولكن محمود عارضة والأسير قصي مرعي، الذي شارك في عملية الحفر دون أن يشترك في عملية الهروب، كانا يحفران داخل النفق. تمكن الأسير محمود عارضة من الخروج من النفق، فيما بقي قصي مرعي داخله أثناء التفتيش، وطوال الوقت كان عارضة واقفا فوق فتحة النفق، بينما كان الحراس يفتشون الزنزانة، ولم يلاحظ السجانون عدم وجود قصي مرعي في الزنزانة.[13] وفي ذات مرة، خلال عملية تفتيش للغرفة لاحظ مجموعة من أفراد وحدة "درور" وجود تشقق في الأرضية التي كانت تغطي فتحة النفق، فقاموا بإبلاغ الضابط المسؤول عن القسم، ولكنه رد عليهم بأن كل شيء على ما يرام، وأن هذا التشقق موجود في العديد من الغرف.[14]
والسؤال الأهم الذي يتبادر إلى الذهن في ضوء كل هذه السقطات الأمنية، هو لماذا كل هذا الإهمال؟
يمكن القول أن السجان، أو الطرف الأقوى، يقع في هذه الحالة في فخ قوته، حيث إن منظومة المراقبة الشديدة التي يطبقها السجان على الأسرى، واطمئنانه إلى التحصينات الشديدة داخل السجن؛ بالإضافة إلى اطمئنانه من أن الأسرى إذا تمكنوا من الهرب فإنهم سيكونون داخل "السجن الكبير"، أي الجغرافيا الفلسطينية في الداخل المحتل والضفة الغربية التي تخضع بدورها لمنظومة مراقبة وسيطرة مكثفة؛ سيولد شعورا لدى السجان بأن الأسرى سيشعرون بعبثية محاولة الفرار لأن فشل المحاولة سيكون مؤكدا، خاصة وأن محاولاتهم السابقة قد باءت بالفشل. وهذا ما يجعل الطرف الأقوى يقع في وهم قوته، فبدل أن يمارس دوره الرقابي بشكل كامل يركن إلى حضور منظمومة الرقابة الدائمة في وعي الأسرى.
ولكن في الوقت الذي يطبق فيه السجان منظومة المراقبة المكثفة على الأسرى، يقوم الأسير بدوره بمراقبة منظومة المراقبة ذاتها. ففي اعترافات الأسير محمود العارضة حول عملية الهروب جاء أنه اختار وحدد موقع الحفر للنفق بعد دراسة ورصد وتأنٍ، وقرر أن يكون أسفل المغسلة في حمام الغرفة، إذ أنه اكتشف منذ 15 عامًا أن الأرضية ضعيفة في حمامات جميع الزنازين ومن الممكن حفر نفق أسفلها.[15]
وإلى ذلك، فإن الأسرى قاموا على مدار سنوات طويلة بمراقبة السجانين وفترات وجودهم في أبراج المراقبة، فقبل شهرين من تنفيذ عملية الهروب اكتشف الأسرى أن برج الحراسة المجاور للزنزانة لم يعد مأهولًا.[16] حيث أن الأسير محمود العارضة يقول : "لاحظنا تواجد سجان أحيانًا وأحيانًا لا يكون هناك أحد. كانت لدينا خطة ولم يؤثر علينا هذا الأمر أو يؤرقنا".[17]
تعود بنا هذه المشاهد إلى حكاية الطفولة حول السباق بين السلحفاة والأرنب، ذلك الأرنب السريع الذي اطمأن لسرعته أمام بطء السلحفاة الثقيل، فأهمل ولها حتى تفاجأ بالسلحفاة وهي تسبقه.
وهم "صهر الوعي"
تحظى فكرة صهر الوعي بمركزية متجذرة في المشروع الصهيوني. إذ تعود بداية الطرح الصهيوني لهذه الفكرة إلى الزعيم الصهيوني اليميني زئيف جابوتنسكي؛ بطرحه فكرة "الجدار الحديدي" الذي يدعي فيه أن الشعب الفلسطيني لن يتوقف عن مقاومة المشروع الصهيوني إلا إذا توصل لقناعة تامة بإنه لا يمكن له هزيمة هذا المشرع، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال بناء المشروع الصهيوني لترسانة قوة تكون بمثابة "الجدار الحديدي" غير القابل للاختراق.[18]
وإلى ذلك، يرى الأسير وليد دقة في مقالته التي كتبها داخل سجن جلبوع "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب"؛ أن إسرائيل تدرك "أن المشكلة الحقيقية ليست مع القيادة الرسمية والمفاوض الفلسطيني، وإنما مع الشعب الفلسطيني الذي يرفض سقف الرؤيا الإسرائيلية للحل، ويبدي استعدادية للمقاومة ما يجعل رافد الفصائل المقاومة من المقاومين لا ينضب، ويحوّل أي إمكانية للتسوية مع المفاوض الفلسطيني لإمكانية مستحيلة التطبيق."[19]
وعليه، فإن الحل الذي ارتأته إسرائيل يكمن في "إعادة صهر الوعي الفلسطيني"، وهو ما عبّر عنه بوجي يعلون، قائد الأركان الإسرائيلي السابق، في أكثر من مرة.[20] ويتمحور مفهوم صهر الوعي في خلق فلسطيني جديد مخصخص منعزل عن القضايا الوطنية، ومنشغل ماديا وشعوريا في حياته الخاصة. والملاحظ أن السياسة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، على اختلاف الحكومات الإسرائيلية، أصبحت تتمحور حول المفاهيم الاقتصادية الفردانية دون التطرق للقضايا السياسية، وهو ما كان يطرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو من خلال مفهوم "السلام الاقتصادي" وما تمخض عنه من "صفقة القرن" التي جاءت انسجاما مع الرؤية الإسرائيلية للصراع.
ويرى دقة أن إسرائيل سعت لفرض سياسة صهر الوعي على الأسرى الفلسطينيين في سجونها بوسائل مختلفة، من ضمنها استخدام "عقيدة الصدمة"، التي تمثلت في دفع الأسرى للإضراب عام 2004 لإنهاكهم وتدمير روحهم المعنوية. ويضيف دقة أن الوفرة المادية والتسهيلات التي قدمتها مصلحة للسجون للأسرى عقب الإضراب كان الهدف منها هو خلق وعي جديد للأسرى يحول نضالهم من النضال على الأهداف الوطنية إلى المطالبة ببعض التسهيلات الحياتية، والأكثر من ذلك أن هذه التسهيلات التي يحصلون عليها تعمل بدورها على ضبط سلوكهم وانصياعهم لإدارة السجن خشية فقدانهم التسهيلات الحياتية التي حصلوا عليها. ولذلك يعتبر دقة أن هذه التسهيلات هي أسلوب تعذيب جديد ناعم يمارس بحق الأسرى، لأنه يسعى لصهر وعيهم وضبط سلوكهم دون أن يمارس عليهم أي تعذيب جسدي،[21] وكأن تلك التسهيلات تصبح بمثابة قيود يضعها الأسرى في أيديهم طواعية.
على الرغم مما سبق، فإن من الانتقادات التي وُجهت لمصلحة السجون الإسرائيلية عقب عملية الهروب أن الظروف السهلة التي يحظى بها الأسرى، سمحت لهم بأن يخططوا، وينسقوا وينفذوا الخطوة الذكية التي تطلبت زمنا طويلا وإعدادا. [22] وقد كشفت التحقيقات أن كثرة الهواتف المهربة في جلبوع وسهولة استخدامها كانت عنصرا أساسيا في عملية الهروب، بالإضافة إلى حرية تنقل السجناء بين السجون والأقسام والزنازين، والاستهتار في تنفيذ عمليات التفتيش التي نادرا ما يتم إجراؤها.[23]
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الوفرة المادية والتسهيلات الحياتية؛ إما أنها لم تعمل عملها في صهر وعي الأسرى، أو أنها كانت عاملا مساعدا لهم في عملية الهروب إلى حد ما. كما أنها، وكل وسائل صهر الوعي بشكل عام، لم تنجح في ردع الأسرى الفلسطينيين عن المواجهة مع السجان. ولذلك، يثور لدينا السؤال هنا حول حدود مفهوم صهر الوعي وفعاليته في السياق الاستعماري.
بين الفردانية والجماعية
لا يمكن القول أن الأسرى الستة هربوا من السجن لتحقيق أهداف وطنية عامة، لأن عملية الهروب هي عملية بحث عن الحرية الذاتية التي تقوم وظيفة السجن الأساسية على الحرمان منها. حيث ورد أن الأسير محمد عارضة عبّر عن دافعه للهروب بقوله: "تجولت في فلسطين المحتلة العام 48، وكنت أبحث عن حريتي وعن لقاء أمي".[24] وكذلك ورد عن يعقوب قادري أنه قال: "طالما بقيت على قيد الحياة سأبحث عن حريتي مرات ومرات".[25] وفي المجمل، فهذا الهدف هو هدف الأسرى الستة جميعهم، وجميع الأسرى بشكل عام.
وعليه، فإن سياسة التسهيلات الحياتية والوفرة المادية لا تجدي نفعا على المدى الطويل في إخضاع الأسرى لسياسات الاحتلال، فالقيمة الأساسية التي يفقدها الأسير هي الحرية الذاتية، وخصوصا الأسرى ذوي المحكوميات العالية. هذا بالإضافة إلى أن الأسرى يتعرضون بشكل دوري لعمليات قمع وتفتيش وعقاب دون أن يكونوا قد مارسوا أي مخالفة تستوجب العقاب، مثل محاولة الاحتلال سن وفرض "قانون شاليط" عام 2010 للتضييق على الأسرى على خلفية اعتقال المقاومة الفلسطينية للجندي الأسرائيلي جلعاد شاليط.[26] وكذلك فرض مصلحة السجون جملة من العقوبات التعسفية على الأسرى على خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة 2014.[27] وعليه، فالأسرى ليسوا أجسادا منضبطة، بل هم ذوات مقاومة اضطرارايا، حيث تضطرهم ظروف السجن وفقدانهم للحرية إلى الانخراط في مواجهة مستمرة مع السجان. ومع أن المواجهة أصبحت تتمحور حول المطالب الحياتية، إلا أن الفصل بين الحياتي والسياسي في السياق الاستعماري غير ممكن. فالأفراد في السياق الاستعماري في حال خضوعهم بشكل تام لسياسة الاحتلال وانشغالهم بحياتهم الخاصة، فإنهم لن يكونوا بمعزل عن سياسات الاضهاد والعقاب الجماعية.
وعليه، فإنه لا يمكن الفصل في ظل السياق الاستعماري بين القضايا الفرادنية والقضايا الوطنية. حيث إن سياسات التجزئة للقضايا الوطنية، والخصخصة للأفراد والجماعات لمستويات فردانية ومناطقية دون وطنية ستؤدي على المدى البعيد إلى إعادة إنتاج القضايا الوطنية العامة. فسياسات الاستعمار التي تمارس بحق الشعب الفلسطيني في السجون وخارجها تشكل محفزات للأفراد لمقاومة سياسات الاستعمار بحثا عن الحرية الذاتية، لأن سياسات الاستعمار تستهدف بشكل أساسي حرية الشعب الفلسطيني بكامل أفراده.
في محاولة للختام..
يجد الأسير الفلسطيني نفسه، في هذا السياق، ضمن معادلة صفرية، فأكبر قدر من الخسارة يمكن أن يحصل عليه هو ذات القدر الذي يعيش فيه، بمعنى أن فشل محاولة الهروب من السجن ستكون عقوبتها هي السجن ذاتها. وهذا ما سيدفعه لتحدي السجان والبحث عن حريته، إذ ليست هناك خسارة يمكن أن يواجهها أكبر من خسارته حريته. حيث أجاب الأسير محمود العارضة حول ما إذا كان مترددا أو خائفا قبل عملية الهروب: "لا، ماذا كانوا سيفعلون بي؟ هل كانوا سيعاقبونني بالحبس لبضع سنوات إضافية؟ أنا محكوم بالسجن لمدى الحياة. ليس لدي ما أخسره".[28]
وعليه، فإنه بالرغم من تمكن الاحتلال من إعادة اعتقال الأسرى الستة، إلا أن كل منظومات الرقابة وسياسات صهر الوعي لن تتغلب حاجة الفلسطيني للحرية وسعيه نحوها. فالاستعمار والحياة لا يمكن أن يلتقيا، مهما قدم الاستعمار من تسهيلات.
[1] الجزيرة نت: سجن جلبوع.. "غوانتنامو إسرائيل" الذي نجح أسرى فلسطينيون في اختراقه، https://cutt.us/uiH2j
[2] ينظر: ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة ولادة السجن (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990).
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق.
[6]ينظر: وليد دقة، صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2010).
[7] عبد الناصر فروانة، هروب الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية: تاريخ من السعي وراء الحرية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، https://www.palestine-studies.org/ar/node/1651574
[8] المرجع السابق
[9]Sputnikعربي: تفاصيل مثيرة.. أين اختفى تراب الحفر وهل تلقى الأسرى الفلسطينيون مساعدة من السجانين؟، https://cutt.us/TEYRi
[10] الهدهد: الحُراس فتشوا الزنزانة في وقت غير مُتوقع، والأسير كان عالقا في النفق، https://hodhodpal.com/post/31030/
[11] عربي 21، "يديعوت": "الهروب الذكي" من "جلبوع" كشف 7 إخفاقات كبيرة، https://cutt.us/9LA7T
[12] عربي بوست: رمال النفق سدَّت أنابيب السجن بأكمله! أسرى جلبوع الستة قدموا موعد هروبهم بعد مؤشرات كادت تكشفهم، https://cutt.us/VVs4u
[13] الهدهد، مرجع سابق.
[14] المرجع السابق.
[15] سما الأخبارية، قناة عبرية تنشر نسخة الشاباك لمحاضر التحقيق مع العارضة قائد عملية الهروب من سجن جلبوع، https://2u.pw/V2yyr
[16] الهدهد: الحُراس فتشوا الزنزانة في وقت غير مُتوقع، والأسير كان عالقا في النفق، https://hodhodpal.com/post/31030/
[17] سما الأخبارية، قناة عبرية تنشر نسخة الشاباك لمحاضر التحقيق مع العارضة قائد عملية الهروب من سجن جلبوع، https://2u.pw/V2yyr\
[18] ينظر: محمد أبو سمرة، زئيف جابوتنسكي والقضية الفلسطينية "قراءة في مكونات الفكر الصهيوني اليميني"، قضايا إسرائيلية، ع 37-38 (2010).
[19] وليد دقة، مرجع سابق.
[20] المرجع السايق.
[21] المرجع السابق.
[22] عربي 21، "يديعوت": "الهروب الذكي" من "جلبوع" كشف 7 إخفاقات كبيرة، https://cutt.us/9LA7T
[23] الهدهد، مرجع سابق.
[24] الميادين: "تم اعتقالنا بالصدفة".. الأسرى محمد ومحمود العارضة تحدثا إلى محاميهما، https://cutt.us/2a05z
[25] الإمارات اليوم: الأسير يعقوب قادري: عشت أجمل 5 أيام في حياتي بعد الهروب.. وأعرف الوشاة، https://cutt.us/5UEF5
[26] الجزيرة نت: "قانون شاليط" لمعاقبة أسرى حماس، https://cutt.us/MzaO8
[27] الرسالة نت: 2014.. العام الأسوأ على الأسرى الفلسطينيين، https://cutt.us/AKIZj
[28] سما الأخبارية، قناة عبرية تنشر نسخة الشاباك لمحاضر التحقيق مع العارضة قائد عملية الهروب من سجن جلبوع، https://2u.pw/V2yyr
© جميع الحقوق محفوظة
(طباعة)