بقلم: أ. كريم قرط، باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله
بدأ العالم، مؤخرا، بالدخول إلى حقبة جديدة من حقب التسليح وأنظمة الدفاع، نتيجة تغير طبيعة الأسلحة الهجومية وتطورها المستمر كما ونوعا، التي أصبحت منظومات التسليح والدفاع التقليدية في ظلها غير فعالة بما فيه الكفاية. ففي السنوات الأخيرة أعلنت عدة دول عن تطويرها لمنظومات دفاع وأسحلة تعمل بالليزر، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وإيران وتركيا، وتنقسم هذه المنظومات بين منظومات استراتيجية ومنظومات تكتيكية. إذ تتركز مهمة النوع الأول في مواجهة الصواريخ الجوالة والصواريخ البالتسية التي تحلق على ارتفاعات عالية فوق طبقة الأتموسفير، أما النوع الثاني فهو يتركز على مواجهة الصواريخ والمقذوفات وقذائف الهاون والطائرات المسيرة ذات الارتفاعات المنخفضة والمديات القصيرة والمتوسطة.
لا تقف كل الدول المطورة لمنظومات الدفاع الليزرية على نفس المستوى من التقدم في إنتاج هذه الأسلحة، فهناك دول لديها خبرة ومعرفة وإنجازات سابقة في الموضوع، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد رائدة الدول المستخدمة لليزر لأغراض التسليح. ولكن على أية حال ما زال عدد الدول التي لديها مشاريع من هذا النوع محدودا جدا. وقد نشطت إسرائيل منذ سنوات طويلة في العمل على إنتاج منظومة دفاع جوي تعمل بالليزر، غير أن السنوات الأخيرة شهدت حراكا إسرائيليا متزايدا لإسراع عملية إنتاج منظومة دفاع جوي ليزري أطلقت عليها بداية "الشعاع الحديدي" وهو الاسم الذي ظلت معروفة به عالميا Iron beam، ولكنها عادت وغيرت الاسم ليصبح "درع النور"، ماغين أور بالعبرية.
سباق الليزر
بلغت ذروة السعي لتطوير أسلحة الليزر في حقبة الثمانينيات عندما شرعت الولايات المتحدة في تنفيذ مبادرة الدفاع الاستراتيجي المعروفة باسم (حرب النجوم) في محاولة لصد خطر الصواريخ البالستية، ولكن الولايات المتحدة عادت وأوقفت المشروع نظرا إلى تكلفته العالية وتزامن ذلك مع انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي كان يشكل مصدر الخطر الأكبر للولايات المتحدة حينها. لم يتوقف المسعى الأمريكي كلية منذ ذلك الحين لتطوير أنظمة دفاع جوية ليزرية، ولكن ظلت العقبات التكنولوجية تشكل عائقا أمام إحداث اختراقات مهمة في المجال.
في السنوات الأخيرة بدأت عدة دول في تطوير برامج دفاعية تعمل بتقنية الليزر نتيجة حدوث عدة تطورات، يتزايد خطرها كل يوم. ففضلا عن التقدم التكنولوجي الذي حدث في السنوات الماضية وأسهم في تطوير تقنيات الليزر، فإن هناك حاجة ملحّة في الفترة الحالية لوجود سلاح كهذا. ويمكن إجمال الأسباب التي تقود سباق التسلح بالليزر في عدة أمور رئيسة:
· تزايد خطر الصواريخ بشكل عام، ففي السنوات الأخيرة تزايد عدد الدول التي استطاعت تطوير برامج صاورخية بالستية بمديات قادرة على تغطيات مساحات شاسعة من الكرة الأرضية، فضلا عن الدول التي تزودت بهذه الصواريخ لتكون ضمن ترسانتها العسكرية. ويأتي هذا التطور في ظل أن الصواريخ تظل سلاحا هجوميا أرخص بكثير من الطائرات الحربية التي لا تجيد غالبية الدول إنتاجها ولا تستطيع تحمل تكاليف شرائها. ولذلك تسمى الصواريخ بـ"سلاح الفقراء".
· دخول الطائرات المسيرة بقوة إلى مسرح المعارك، وقد باتت هذه المسيرات تشكلا خطرا كبيرا وتحديا لمنظومات الدفاع الجوي.
· تطوير الصواريخ الفرط صوتية (هايبرسونيك) التي تفوق سرعتها 5 ماخ، وهذه الصواريخ تشكل تحديا لمنظومات الدفاع الجوي نظرا لأن سرعة صاروخ الهايبر سونيك تفوق سرعة الصواريخ الاعتراضية بأضعاف. وقد بدأت عدة دول بإنتاج هذا النوع من الصواريخ، ومن أهمها روسيا.
· ارتفاع تكلفة منظومات الدفاع الجوي الصاروخية، وارتفاع تكلفة إنتاج صواريخها، فضلا عن إشكاليات نقص المخزون وصعوبة تعويضه بالسرعة المطلوبة في حالة الحروب والاستخدام الكثيف لهذه الصواريخ في محاولة اعتراض الصواريخ المهاجمة.
أمام هذه الإشكاليات بدأت الدول الكبرى وغيرها في محاولة إنتاج أنظمة دفاع جوي تستطيع التغلب على التحديات الميدانية الجديدة، ولذلك شهدت السنوات الأخيرة سباقا بين عدة دول لتطوير سلاح الليزر كبديل أو مكمل لمنظومات الاعتراض الجوي الصاروخي. إذ يشكل الليزر بديلا رخيصا لها، وأيضا يمكن تدعي بعض الدول أنه قد يكون قادرا على مواجهة صواريخ الهايبر سونيك لأن الليزر يسير بسرعة الضوء، أي بسرعة تفوق سرعة صواريخ الهايبر سونيك ما يمكنه من اعتراضها.
محاولات إسرائيل السابقة
في حالة إسرائيل، فإن مشكلة الصواريخ تعد أعمق وأخطر من أي دولة أخرى، حسب وجهة النظر الإسرائيلية، وذلك لأنها ظلت تحت تهدد صواريخ المقاومة طيلت عقود، سواء المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أو صواريخ حزب الله في لبنان. وقد بدأ التفكير والعمل على إنتاج منظومة دفاع جوي، للتصدي بشكل أساسي للصواريخ قصيرة المدى التي تشكل التهديد الأبرز على إسرائيل، منذ العام 1996. إذ بدأت الولايات المتحدة وإسرائيل منذ العام 1996 بالعمل على إنتاج منظومة دفاع جوي ضد صواريخ الكاتيوشا التي كان يطلقها حزب الله على شمال فلسطين المحتلة إبان الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. وكانت تكلفة المشروع 200 مليون دولار، ساهمت الولايات المتحدة بمبلغ 150 مليون دولار منها.
تمكنت الشركات الأمريكية والإسرائيلية المنفذة للمشروع من إنتاج منظومة عُرفت باسم "ناوتيلوس" التي كانت تعمل بتقنية الليزر الكميائي الناتج من استخدام مزيج غازات مثل الهيدروجين والفلوريد وغيرها، حسب نوع المنظومة. ولكن في عام 2004 انسحبت إسرائيل من المشروع نتيجة عوامل مختلفة، إذ كانت إسرائيل قد انسحبت من جنوب لبنان عام 2000 فتراجع تهديد صواريخ حزب الله على الشمال، وكذلك اعتبر جيش الاحتلال أن المنظومة غير عملية ومكلفة، فحجمها كبير جدا (بحجم ملعب كرة قدم) وهي سهلة الاستهداف.
فقدرة تلك المنظومة على إسقاط الصواريخ مرتبطة بالحالة الجوية، فالأحوال الجوية السيئة تشل قدرة الليزر على العمل، وأيضا سرعة عمله محدودا، فبإمكان القلطة الواحدة منه إسقاط صاروخ كل عدة ثوانٍ ولكن هذا الأمر غير فعال في حالة وجود رشقات صاروخية كبيرة، والمشكلة الأهم هي أن مدى المنظومة قصير جدا، باستطاعته أن يغطي مسافة 2 كلم فقط، ما يعني أن إسرائيل بحاجة إلى قرابة 50 مدفع ليزر من هذه المنظومة لحماية حدودها مع جنوب لبنان وغلاف قطاع غزة، وبتكلفة تبلغ قرابة 3 مليار دولار. وهذا فضلا عن حجم اللوجستيات الكبير المتطلب لتشغيل المنظومة، ما دفع إسرائيل للانسحاب من المشروع، ثم جمدت الولايات المتحدة العمل فيه، لاحقا، على إثر ذلك.
عاد النقاش حول المنظومة عقب اندلاع حرب تموز 2006، وتعرض مستوطنات شمال فلسطين المحتلة لرشقات كثيفة من الصواريخ خلال الحرب، وحينها لم يكن لدى إسرائيل منظومات دفاع جوي قصير المدى، من إنتاجها.
تشكلت في إسرائيل لجنة مهنية، ضمت شخصيات أمنية وعلمية، عرفت باسم "لجنة نغل" في عام 2007 لدراسة عدد من الخيارات (أكثر من 10 خيارات) التي يمكن الاعتماد عليها لمواجهة صواريخ المقاومة. وكان من بين تلك الخيارات منظومة حارس السماء Skygaurd التي أنتجتها شركة نورث روب غرمان المطورة عن منظومة ناوتيلوس التي كانت تعمل على إنتاجها بالشراكة مع شركات إسرائيلية قبل أن تنسحب منها.
عالجت المنظومة الجديدة العديد من إشكاليات منظومة ناوتيلوس، مثل مشكلة حجم المنظومة ومداها الذي تطور ليبلغ مسافة من 4 إلى 10 كلم، غير أنها لم تكن قد دخلت المرحلة العملية بعد. لم تتحمس اللجنة كثيرا لهذه المنظومة لعدة أسباب، من أهمها كلفة إنتاجها العالية، إذ إن الشركة أبلغت اللجنة أن استكمال تطوير المنظومة يحتاج إلى مبلغ من 150 إلى 200 مليون دولار، وهي تكلفة مرتفعة ولكن تكلفة طلقة الليزر الواحدة ستكلف مبلغ من 1000 إلى 3000 دولار، وهو سعر أقل بكثير مما تحتاجه أي منظومة دفاع جوي أخرى.
ولكن في نهاية الأمر اختارت اللجنة منظومة الاعتراض الصاروخي "القبة الحديدية"، وهناك انتقادات كثيرة في إسرائيل لعمل اللجنة واتهامات لها بأنها اتخذت قراراها بناء على اعتبارات خارجية، أي ليس بسبب المعطيات الموضوعية لكل خيار.
إشكاليات القبة الحديدية
مع تزايد التهديدات الصاروخية، التي تتعرض لها إسرائيل في السنوات الأخيرة، وزيادة عدد الصواريخ ومداها وقدراتها، التي تطلق عليها في كل جولة قتال مع المقاومة الفلسطينية، وتزايد احتمالات اندلاع حرب على الجبهة الشمالية، يمكن أن تتدخل فيها أطراف أخرى، تستخدم فيها الصواريخ والطائرات المسيرة بكثرة؛ عاد الاهتمام الإسرائيلي بموضوع منظومة الدفاع الجوي الليزري.
ويعود سبب هذه الاهتمام إلى الإشكاليات التي تعاني منها منظومة القبة الحديدية، بشكل أساسي، وغيرها من منظومات الدفاع الجوي التي تستخدمها إسرائيل، فبالإضافة إلى منظومة القبة الحديدية، لدى إسرائيل منظومة مقلاع دوواد للصواريخ متوسطة المدى، ومنظومة السهم 3 للصواريخ البالستية.
فالقبة الحديدية مكلفة ماديا جدا، فكل صاروخ "تامير" وهو الصارخ الذي تستخدمه القبة الحديدية لإسقاط الصواريخ، يكلف قرابة 50 ألف دولار، وأحيانا يتطلب إسقاط صاروخ واحد من صواريخ المقاومة التي لا تكلف سوى بعض مئات الدولارات، إطلاق صاروخين من القبة الحديدية، ما يعني أن التكلفة تتضاعف لـ 100 ألف دولار. وهذه التكلفة الباهظة تشكل معضلة حقيقية في ظل تصاعد أعداد الصواريخ التي تطلقها المقاومة في كل جولة، ففي معركة سيف القدس على سبيل المثال أطلقت المقاومة الفلسطينية قرابة 4600 صاروخ خلال 11 يوما فقط. ولو افترضنا أن القبة الحديدية أطلقت صاروخا واحدا لإسقاط كل صاروخ من صواريخ المقاومة فالتكلفة الكلية تبلغ قرابة 250 مليون دولار. والأمر المهم الآخر هو أن تحسن قدرات صواريخ المقاومة ومدياتها أصبح يضطر الاحتلال إلى استخدام منظومة مقلاع داوود التي يكلف كل صاروخ منها مبلغ مليون دولار.
كانت مخاوف الاحتلال تزداد، قبيل اندلاع معركة طوفان الأفصى، من احتمال اندلاع حرب شاملة أو متعددة الجبهات، تنهمر الصواريخ فيها على إسرائيل من جنوب لبنان وقطاع غزة، إذ كان يقدر الاحتلال أنه من المحتمل أن يطلق عليه أكثر من 3000 صاروخ يوميا، في حال اندلاع هذه الحرب. ولا يخفى أن تكلفة تصدي القبة الحديدية لسيناريو كهذا ستكون باهظة، لن تستطيع إسرائيل تحملها بسهولة. ففي اليوم الواحد، إذا تصدت القبة الحديدية لكل صاروخ، ستبلغ كلفة التصدي لصواريخ المقاومة أكثر من 150 مليون دولار، والحديث هنا فقط عن كلفة صواريخ الاعتراض من تامير وغيره. وقدّر الجنرال (احتياط) يهودا فاغمان، أن مواجهة شاملة، على جبهتي لبنان وغزة، تستمر لمدة 40 يوما، بناء على تقديرات العدوان على غزة 2014، ستكلف فيها مسألة اعتراض الصواريخ بمختلف أنواعها والطائرات المسيرة قرابة 64 مليار دولار.
وفضلا عن التكلفة الاقتصادية الباهظة التي تتكبدها إسرائيل في مواجهة صواريخ المقاومة، فهناك مشكلة مخزون الصواريخ الاعتراضية وقدرة إسرائيل على إعادة إنتاجه خلال المعركة. ففي ضوء التقديرات السابقة، ستحتاج إسرائيل إلى قرابة 3000 صاروخ تامير في اليوم، وبغض النظر عن مدى دقة الرقم، فقدرة إسرائيل على الاحتفاظ بمخزونات هائلة من هذه الصواريخ وقدرة تعويضها خلال الحرب تظل محدودة. فهناك تقارير تفيد بأن مخزون إسرائيل من صواريخ القبة الحديدية كانت على وشك النفاد في العدوان على غزة 2012، حسب ما يوضح فاغمان. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تطور صواريخ المقاومة وامتلاكها، خاصة في لبنان، صواريخ جوالة قادرة على المناورة يفرض حدودا على قدرة القبة الحديدية على التصدي لها.
ونظرا إلى الكلفة العالية وخشية النقص في مخزون الصواريخ، أدخل الاحتلال على القبة الحديدية عدة تعديلات حتى تستطيع تحديد وجهة الصاروخ أو المقذوفة وبناء على ذلك تقرر إذا ما كانت ستطلق صاروخها تجاهه أم لا، فإذا كان الصاروخ سيسقط في منطقة خالية فإن القبة الحديدية لن تحاول اعتراضه.
بطبيعة الحال، يدعي الاحتلال أن نسبة نجاح القبة الحديدية تطورت مع الوقت، منذ بداية استخدامها عام 2011، لتلبغ نسبة نجاحها أكثر من 90%. فحسب جيش الاحتلال تمكنت القبة الحديدية من إسقاط أكثر من 5500 صاروخا، منذ بدء استخدامها.
ولكن عند مقارنة عدد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، منذ ذلك الحين وحتى اليوم، مع عدد الصواريخ المسقطة، نجد أن النسبة تبلغ قرابة الثلث، فخلال هذه الفترة أطلقت المقاومة على إسرائيل أكثر من 14 ألف صاروخ ومقذوفة، ولو افترضنا أن القبة الحديدية لا تتصدى لثلث عدد الصواريخ لتقديرها بأنها ستسقط في مناطق مفتوحة، فإن النسبة ستكون مع ذلك أقل من 60%. فالمقاومة الفلسطينية استطاعت التعامل مع القيود التي تفرضها القبة الحديدية بالاعتماد على مبدأ الكثافة في إطلاق الصواريخ و تمويهها بإطلاق رشقات رصاص مضاد للطائرات، إذ يمكن للقبة الحديدية التصدي لعدد محدود من الصواريخ في الرشقة الواحدة لأن كل بطارية من بطاريات القبة الحديدية تحتوي على 20 صاروخ اعتراض فقط، بمعنى أنها لن تستطيع التصدي لعدد أكبر من ذلك من الصواريخ في الرشقة الواحدة.
الملاحظ أنه مع الوقت تضاعف تقديرات الاحتلال لعدد القدرات الصاروخية لدى حزب الله والمقاومة الفلسطينية، وهذا ما جعل إسرائيل في مأزق متصاعد أمام تصاعد كثافة النيران التي تمتلكها المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية توسع المواجهة إلى جبهات أخرى أبعد، مثل العراق واليمن، ودخول أسلحة جديدة إلى ساحة المعركة، مثل الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة. فإسرائيل باتت تخشى من خطر الطائرات المسيرة الإيرانية، التي استخدمتها روسيا في أوكرانيا، وتقول إسرائيل أن حزب الله يمتلك مخزونا كبيرا منها.
ما يعنيه ذلك، هو أنه في ظل سيناريو الحرب الشاملة، أو على عدة جبهات، فإن منظومات الدفاع الجوي الصاروخي لن تكون كافية، كما أن القبة الحديدية فيها الكثير من العيوب والإشكاليات، سواء مادية أو لوجستية، وفاعليتها دون المستوى المطلوب، ولذلك من كان من الضروري على إسرائيل أن تبحث عن بديل مكمل لعمل القبة الحديدية في ظل تصاعد احتمالات الحرب متعددة الجبهات.
درع النور
لم تتخلَ إسرائيل كلية عن التفكير في إنتاج سلاح دفاعي يعمل بتقنية الليزر، وهذا الأمر مرتبط، ليس فقط بمشكلات القبة الحديدية الحاجة إلى منظومات دفاع أرخص تكلفة، وإنما يعود ذلك في تقديري إلى سعي إسرائيل إلى أن تكون ضمن الدول الرائدة تكنولوجيا في هذا المجال في ظل السباق العالمي عليه. وهذا بشكل عام، ما يحكم العقل الصهيوني، إذ إن إسرائيل بحاجة لإثبات جدارتها وجدارة المشروع الصهيوني برمته وإيجاد السبل الكفيلة بالحفاظ على استمراريته، ومن ذلك أنها تسعى في ذات القوت إلى تحقيق الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي.
على أية حال، بدأت إسرائيل العمل على تطوير منظومة دفاع جوي ليزرية مختلفة عن المحاولات السابقة منذ أكثر من 10 سنوات بالشراكة بين شركة رفائيل للصناعات العسكرية وشركة ألبيت سستمز وباحثين أكاديميين إسرائيليين. وفي شهر يناير/كانون الثاني 2020 أعلن رئيس قسم البحث والتطوير في إدارة البحث لتطوير الأسلحة والبنية التحتية التكنولوجية، المعروفة باسم "مفات" التابعة لوزارة الأمن، الجنرال يانيف روتم عن أن إسرائيل ولجت إلى عصر القتال بالطاقة، وأن إسرائيل أصبحت إحدى الدول الرائدة في مجال الليزر فائق القوة. وأضاف أنه عقب سنوات من البحث والتطوير تمكنت إسرائيل من تطوير ليزر كهربائي على خلاف الليزر الكيمائي الذي كان يستخدم سابقا. وكانت شركة رفائيل عام 2021 قد وقعت عقدا مع شركة لوكهيد مارتن الأمريكية للتعاون في تطوير منظومة دفاع قائمة على الليزر، وإنتاجها وتسويقها. حيث إن شركة لوكهيد مارتن كانت قد بدأت في العمل على تطوير أسلحة الليزر منذ عام 1993 وحققت ناجاحات مهمة.
وفي شهر يناير 2022 أعلن رئيس الوزارء الإسرائيلي، حينئذ، نفتالي بينت أن جيش الاحتلال خلال سنة سيبدأ باستخدام نظام دفاع جوي ليزري بداية بشكل تجريبي وبعدها بشكل عملياتي، حيث ستبدأ في الجنوب ثم إلى بقية المناطق. غير أن هناك شكوكا حامت حول المدى الزمني الذي أعلنه بينيت حينها، إذ رأى عدد من الخبراء الأمنيين أن السلاح بحاجة إلى عدة سنوات من البحث والتطوير قبل أن يدخل مرحلة الاستخدام. وخلال زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإسرائيل في تموز 2022 عُرضت عليه المنظومة في مسعى لإيجاد شركاء لتطوير المشروع، والولايات المتحدة بطبيعة الحال هي المرشح الأول لشراكة من هذا النوع.
يعتمد هذا النوع من الليزر على الكهرباء بدل العناصر الكيميائية لإنتاج الطاقة الحرارية الكفيلة بتدمير المقذوف. وتقوم آلية عمل السلاح على توجيه شعاع الليزر فائق الطاقة، باستخدام الألياف البصرية، تجاه الهدف، بحيث يعمل هذا الشعاع على تسخين الجزء الذي يقع عليه الإشعاع لدرجات حرارة عالية ما يؤدي إلى تحطم الهدف سواء كان صاروخا أو مقذوفة أو طائرة مسيرة، وليس من الضروري أن يتفجر الهدف عند تسليط الشعاع عليه، وإنما سيعمل الشعاع على تسخين الجزء المستهدف من الصاروخ أو المسيرة إلى درجة تؤدي إلى إصابته بعطب تمنعه من مواصلة التحليق، فيسقط أرضا.
وحسب المهندس المسؤول عن المشروع في شركة رفائيل، فإن الطاقة التي يحملها شعاع الليزر تقارب 100 كيلو واط، وقطرها لا يتجاوز قطر العملة المعدنية من فئة 10 شواكل. كما أن الشعاع لن يكون مرئيا ولن ينتج عنه ضجيج، وقد لا تسمع أصوات انفجارات عند إسقاط المقذوفات. وحسب يهوشوع كليسكي الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، فمن حيث أن الليزر يعمل بسرعة الضوء فإن المنظومة ستكون فعالة في إسقاط عشرات الصواريخ دفعة واحدة، لأن الصواريخ المقذوفة من غزة أو لبنان تسير بسرعات أقل من سرعة الصوت حتى، ما يعني أن صواريخ المقاومة ستبدو أمام شعاع الليزر وكأنها ثابتة، نظرا إلى فرق السرعات الذي لا يقارن بينهما. ولذلك فإن الشعاع سيتمكن من إسقاط الصاروخ في أجزاء من الثانية، ما يمنحه المجال للتصدي لبقية الصواريخ.
وستكون هذه المنظومة مخصصة لاستهداف الصواريخ قصيرة المدى والمقذوفات وقذائف الهاون بشكل أساسي، ومداها يقارب 15 كلم، غير أن هناك ثلاثة نماذح منها كما وضّح فيديو نشرته مفات في عام 2022. إذ إن العمل يجري على تطوير ثلاثة نماذج من هذه المنظومة باستخدامات مختلفة:
1- منظومة ليزر أرضية ، ستعمل على إكمال مهمة القبة الحديدية، بحيث تتصدى للصواريخ والمقذوفات وقذائف الهون ذات المديات القصير، وهي من تطوير شركتي رفائيل ولوكهيد مارتن.
2- منظومة مثبتة على المركبات العسكرية المتحركة، كالدبابات وناقلات الجند، تعمل كنظام دفاع ضد الصواريخ المضادة للدروع أو غيرها من الأسلح، وهذه أيضا من تطوير شركتي رفائيل ولوكهيد مارتن.
3- منظومة جوية مثبتة على منصة جوية، كالطائرات أو المسيرات، لتعمل على إسقاط الصواريخ والمسيرات على ارتفاعات عالية، وهي من تطوير شركة ألبيت سستمز.
وحسب التصريحات الإسرائيلية المتعددة حول هذه المنظومة، فإنها ستكون فعّالة في إسقاط أكبر عدد من الصواريخ في وقت قصير وبدقة عالية، وهي أيضا، وهو الأهم، حسب الدعاية الإسرائيلية، بلا تكلفة تذكر، فثمن طلقة الليزر الواحدة بضعة دولارات (2-5) وهي ثمن الطاقة الكهربائية المستخدمة فقط. والمنظومة حاليا هي منظومة دفاعية، ولكن يطمح الاحتلال إلى تحويلها لمنظومة هجومية مع الوقت.
الدعاية الإسرائيلية حول "درع النور"
من الملاحظ أن التصريحات الإسرائيلية حول منظومة الدفاع الليزري فيها نوع من الدعاية السياسية، أكثر من مجرد الحديث عن أمور تقنية عملياتية، فحيمنا أعلن نفتالي بينت عن المنظومة لأول مرة قرن استخدامها بأنها ستخفض تكلفة مواجهة صواريخ المقاومة. إذ قال إن إسرائيل قررت أن تكسر المعادلة التي تضطر فيها إلى استخدام صواريخ القبة الحديدية غالية الثمن لإسقاط صواريخ المقاومة التي لا تذكر تكلفتها بالمقارنة مع صواريخ القبة الحديدية.
وقد تكررت مسألة تغيير المعادلة في معظم الخطابات الإسرائيلية التي تحدثت عن المظومة، فبني غانتس، وزير الدفاع السابق، وصف هذه المنظومة بأنها ستكون مغيرة لقواعد اللعبة Game changer. وهذا ما أكده المدير العام لشركة ألبيت سستمز، بتسلإيل مخليس، الذي قال: "سيؤدي الليزر إلى تغيير البردايم، إذ إنه يمنح إمكانية التعامل، في آن واحد، مع عدد كبير من التهديدات المختلفة، بسرعة وبتكاليف منخفضة. في هذا العام أسقطت طائرة مسيرة، وهذه البداية فقط. في هذا المجال نحن الرائدون في العالم".
ومن جانب آخر قال الرائد حنانئيل، أحد المشاركين في تطوير المشروع: "أريد أن نصل إلى وضع يصاب فيه العدو باليأس المطلق، بحيث يدرك أن لدينا مدافع ليزر منتشرة في كل مكان فيه ضرورة لوجودها، وليطلق العدو حينها تجاهنا ما أراد، ولكن كل ما يطلقه سيُسقط ويُدمّر دائما، تقريبا في لحظة الإطلاق ذاتها، قبل أن يصل، بوقت طويل، إلى المناطق الإسرائيلية ويهدد السكان والممتلكات. في وضعية كهذه ربما لن نحتاج حتى إلى تفعيل صفارات الإنذار. لماذا سيضطر أحد سكان سديروت إلى الاستيقاظ في منتصف الليل والهرع إلى الملاجئ إذا كنا قد أسقطنا التهديد قبل أن يجتاز الحدود؟ سنحقق الهدوء. بالنسبة لنا، هذا شلل مطلق لقدرات العدو".
وإلى ذلك، لدى إسرائيل ادعاء بأنها هي الدولة الأولى في العالم التي تصل إلى هذا الإنجاز العسكري، غير أن هذا الكلام قد لا يكون دقيقا ومبالغا فيه، فهناك العديد من الدول أعلنت أنها حققت إنجازات في هذا الإطار، دون الخوض في التفاصيل هذه الإنجازات. وهذا الادعاء لها علاقة بالسمعة الدولية والإقليمية لإسرائيل، التي تحاول أن تستغلها في تحقيق إنجازات سياسية وشراكات استراتيجية دولية وإقليمية.
معيقات سلاح الليزر
يبدو في هذه التصريحات نوع من المبالغة، وهي مشابهة بالمناسبة للتصريحات التي ترافقت مع بدء استخدام القبة الحديدية، وذلك لأن منظومة الليزر لن تكون بديلا عن القبة الحديدية وغيرها من منظومات الدفاع الجوي الصاروخي، وإنما ستكون مكملة لها في المرحلة الأولى على أقل تقدير. وحسب شركة رفائيل فإن منظومة درع النور عندما تستخدم في المعركة الحقيقية فإنها ستخضع للتحسين والتطوير المستمر، بناء على الملاحظات والإشكاليات التي سنتنتج خلال المعركة. أي أن المنظومة ما زالت في مرحلة التطوير، ولم تجرب بعدُ في ساحة معركة حقيقية، فالتجارب على السلاح، مهما كثرت وتعاملت مع سيناريوهات مختلفة، لا تتضح كفاءتها إلا في ساحة المعركة، وهذا حال كثير من الأسلحة.
ومن ناحية أخرى، تواجه منظومة الليزر العديد من الإشكاليات التي تحد من فاعليتها، وهي بالتحديد الظروف الجوية. ومع أن مفات قالت أن هذه المنظومة لديها قدرة على التغلب على العوامل الجوية، إلا أن هناك العديد من الخبراء والمتابعين الإسرائيليين يأكدون أن الليزر بشكل عام، ومن ضمنه منظومة درع النور، لا يستطيع التعامل مع الظروف الجوية السيئة. فوجود السحب والضباب والمطر والرياح والعواصف الرملية، وغيرها من المؤثرات الجوية، يؤدي إلى امتصاص إشعاع الليزر بواسطة بخار الماء أو الغازات المختلفة الموجودة في الغلاف الجوي. كما أن العوامل الجوية تؤدي إلى قطع الخط المستقيم بين الليزر والهدف، إذ يجب أن يظل الشعاع موجها على الهدف بشكل مستمر حتى يحدث الضرر المطلوب.
وإلى ذلك، فإن طاقم تطوير المنظومة لم يقدم إجابات حول عدد الصواريخ التي تستطيع المنظومة التعامل معها في زمن معين، ولذلك فإن هذه المنظومة ستكون طبقة إضافية لمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي متعددة الطبقات، وعليه ستظل إسرائيل بحاجة إلى القبة الحديدية وغيرها من أنظمة الدفاع. وإلى ذلك، فإن هناك نقاشات حول كمية الطاقة التي يحملها شعاع الليزر، من حيث إذا ما كانت كافية لأداء المهمة أم هي بحاجة لطاقة أكبر من 100 كيلو واط بكثير.
خاتمة
في شهر أيلول/سبتمبر المنصرم نقاش جيش الاحتلال ومؤسسته الأمنية مسألة إعداد خطة متعددة السنوات لمواجهة الأخطار المحيقة بإسرائيل وعلى رأسها سيناريو اندلاع حرب شاملة متعددة الجبهات. وأحد المشاريع الرئيسية في هذه الخطة هو تطوير منظومة الليزر "درع النور"، التي ستشغل، بحسب تقديرات جيش الاحتلال، في نهاية عام 2025على حدود قطاع غزة، وبحلول نهاية عام 2027 على الحدود اللبنانية.
ما يعني أنه خلال المعركة الحالية، طوفان الأقصى، لن تتمكن إسرائيل من استخدام هذا السلاح الذي ما زال في مرحلة التطوير. وقد أعلنت الولايات المتحدة أنها بدأت بتوريد صواريخ القبة الحديدية الاعتراضية لإسرائيل لمساعدتها خلال عدوانها على قطاع غزة، ما يعني أنه لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل لديها القدرة حاليا على استخدام الليزر.
© جميع الحقوق محفوظة
(طباعة)