بقلم: د. حسن أيوب
بات من الواضح بأن الهدف مرتفع السقف الذي أعلنت عنه "إسرائيل" والإدارة الأمريكية في الأسابيع الثلاثة الأولى من حرب غزة، وهو القضاء على حركة حماس والمقاومة وهزيمتها هزيمة نهائية، بأن هذا الهدف بعيد المنال. فبرأي معظم المراقبين والمحللين العسكريين، فإن تلك الإمكانية يقف دونها عدة عوامل عملياتية ذات صلة بقدرة الجيش الإسرائيلي على خوض حرب برية هي الشرط الأساسي لتحقيق مثل هذا الهدف، ناهيك عن الروح المعنوية المتهالكة للجيش التي ترتبت على عملية "طوفان الأقصى".
وإلى جانب هذه الاعتبارات فإن "إسرائيل" لم تدخل من قبل حربا شرسة، وعلى حد تعبير الكثير من الإسرائيليين وجودية وهي منقسمة بعمق مثلما هي اليوم. انقسام بدأ بالأصل بسبب سياسات الحكومة الأكثر فاشية في تاريخ "إسرائيل"، وهو ما يلقي بظلال من الشك على قدرة هذه الحكومة ورئيسها في تحقيق أهداف استراتيجية مثل هذا الهدف. ويبدو بأن أول المشككين بقدرة هذه الحكومة على إدارة الحرب وتحقيق إنجازات استراتيجية فيها هو حليفها الأقوى في واشنطن. إذ تناولت العديد من التقارير النقاشات التي تدور في الإدارة الأمريكية حول نهاية حكم نتنياهو. وقد كتب سفير أمريكا السابق في تل أبيب مقالا في مجلة "فورين بوليسي" يتحدث فيه صراحة عن أن أيام نتنياهو في رئاسة الوزراء باتت معدودة.
لقد عززت عمليات التقدم البري المحدود نهجا أقل "طموحا" بشأن الهدف من حرب الإبادة التي تشن على غزة، مصحوبة بحرب مستعرة للتطهير العرقي في الضفة الغربية. إذ بات من الواضح بأن هدف القضاء على حماس وسحقها، لا يبدو في المتناول بحكم ما تبديه المقاومة من بسالة وقدرات دفعت بأركان حكومة الحرب في تل أبيب للاعتراف بمقدار الثمن الباهظ لهذه الحرب. هو إقرار بحقيقة لا جدال فيها، بقدر ما يهدف إلى تحضير الرأي العام في "إسرائيل" للأسوأ، أو على الأقل لتقبل فكرة صعوبة القضاء على حركة حماس. فإذا كان توغل محدود قد فشل في الحد من قدرة المقاومة على إلحاق تلك الخسائر الفادحة في صفوف الجيش "الإسرائيلي" مع الاستمرار في إطلاق الصواريخ على التجمعات "الإسرائيلية" في عمق فلسطين المحتلة، فكيف بمهمة القضاء على حركة حماس والمقاومة؟
ما يلفت النظر هو أن الإدارة الأمريكية بدأت على ما يبدو تدرك حجم المأزق الذي تورطت فيه حكومة نتنياهو، وورطت معها الرئيس بايدن وفريقه الذي شارك من البدايات في هذا العدوان البربري على قطاع غزة. فبعد أن وصل عدد الشهداء الفلسطينيين في قطاع غزة أكثر من 9000 من بينهم 3760 طفلا، و134 شهيدا في الضفة الغربية، والتسبب في نزوح 670 ألفا من الغزيين عن بيوتهم، بدأت الولايات المتحدة بتغيير لغتها وبعض مواقفها من هذه الحرب. وهذا التغيير الظاهري على محدوديته المتناهية، يعني بأن الرئيس بايدن لا يملك ولم يكن يمتلك أي تصور لما يمكن أن تنتهي إليه هذه الحرب. فقد اندفع بكل قوته كمؤمن واثق بالأولوية المطلقة لبقاء إسرائيل وأمنها، وقدم هو وحلفائه الأوروبيين الغطاء الذي أراده نتنياهو للخروج إلى حرب إبادة في غزة دون قيود، بانتظار أن يبلور هو وحكومته الغاية النهائية للحرب.
التهجير أو الإبادة
حتى هذه اللحظة لا يبدو بأن لدى نتنياهو غاية متبلورة وقابلة للتحقق لكي يقدمها للإدارة الأمريكية. يبقى الأمر الوحيد الذي لا خلاف حوله بين الطرفين هو الرفض المطلق لوقف إطلاق النار، ووقف المجزرة الرهيبة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة. فالموقف الراهن للإدارة الأمريكية بهذا الشأن هو القبول، وإقناع نتنياهو بقبول توقف pause أو توقفات مؤقتة للعمليات العسكرية الهدف منها إخراج حملة الجنسيات الأجنبية من القطاع على دفعات، مقابل إدخال مزيد من المساعدات الإنسانية للقطاع قد تشمل كميات محدودة من المحروقات.
إن هذا الموقف بحد ذاته يمثل أقصى درجة من العنصرية والاستخفاف بحياة الفلسطينيين، والذي بات مكشوفا تماما بحكم الموقف الأمريكي المشارك في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها حكومة تل أبيب في قطاع غزة والضفة الغربية. فهو رسالة بليغة، بأن بوسع "إسرائيل" الاستمرار في هذه الجرائم، لكن بعد ضمان خروج غير الغزيين الفلسطينيين من القطاع. ولعل الثابت الوحيد حتى الان في التصور الإسرائيلي لمجريات الحرب هو الاستمرار بتحويل غالبية قطاع غزة، وبخاصة مناطقه الشمالية، إلى مكان غير قابل للحياة بعد الحرب. وهذا ما يجعل من خطة تهجير سكان قطاع غزة ماثلة بقوة رغم التصريحات الملتبسة لأركان الإدارة الأمريكية بأنها لن تقبل بإجبار سكان القطاع على مغادرته. لكن ذلك -بطبيعة الحال- لا يلغي إمكانية نزوحهم هربا من جحيم الإبادة. وما يشير إلى أن الإدارة الأمريكية تتعامل بجدية مع هذا الخيار ولا تستبعده هو ما جاء في وثيقة الإدارة المقدمة للكونغرس للحصول على تمويل قيمته 106 مليار دولار لدعم كل من "إسرائيل" وأوكرانيا. إذ تشير تفاصيل المشروع (حصل المشروع على مصادقة مجلس النواب اليوم 2/11، ومن غير المتوقع أن يحظى بموافقة مجلس الشيوخ بسبب مطالبة الجمهوريين بفصل المساعدات المقدمة لكل من إسرائيل وأوكرانيا) إلى أن الإدارة ستخصص ما يقارب من أربعة مليارات دولا من هذا المبلغ "لمساعدة الهجرة واللاجئين". وجاء في الوثيقة أن هذا التمويل "سيوفر أيضاً المساعدة الإنسانية المنقذة للحياة في إسرائيل، وفي المناطق المتأثرة بالوضع في إسرائيل. ومن شأن هذه الموارد أن تدعم المدنيين النازحين والمتأثرين بالصراع، بما في ذلك اللاجئون الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية، وتلبية الاحتياجات المحتملة لسكان غزة الفارين إلى البلدان المجاورة"، وهو ما يشير إلى التوقعات الأمريكية لكارثة تهجير جديدة قد تقدم عليها "إسرائيل" على نطاق واسع في قطاع غزة، وربما على نطاق أقل في الضفة الغربية. ويبدو بأن التراجع اللفظي الغامض عن قبول واشنطن بهذا الخيار مرتبط أكثر من أي شيء بالتداعيات الخطيرة بعيدة المدى لمثل هذا السيناريو وما يمثله من تهديد لاستقرار اثنتين من أهم حلفائها في الإقليم: مصر والأردن ورفضهما القاطع للتهجير، وردود الفعل الدولية الرافضة لهذا الاحتمال، وبطبيعة الحال صمود وبسالة الغزيين والمقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية على السواء، فمخاطر وبوادر التطهير العرقي ماثلة في الضفة الغربية كما لم تكن في يوم من الأيام. ولم يعد مشروع التهجير هامشيا في التداول "الإسرائيلي، فقد أعدت وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية "جيلا جمليئيل" وثيقة/مشروع كشف عنه موقع "كالكاليست" العبري تحت اسم: متحدون من أجل الاستيطان: قطاع غزة والذي يدعو لتهجير كل سكان قطاع غزة إلى مصر، وجرى تداوله وتأييده من قبل عدد من المسؤولين في حكومة نتنياهو. وأتت تاليا وثيقة أخرى صادرة عن مؤسسة "مسغاف" وهي مقربة جدا من نتنياهو ويرأسها مستشاره السابق للأمن القومي "مئير بن شبات" وتدعو إلى إعادة توطين نهائي لكل سكان قطاع غزة مشية إلى أن هناك "فرصة مواتية ولا تتكرر لإخراج كل سكان القطاع بالتنسيق مع الحكومة المصرية".
ما بعد حماس؟
كل هذه المعطيات تشير بوضوح إلى أن مخطط التهجير مطروح بقوة، ويجري تعزيزه ودفعه إلى الأمام في الخطاب الإسرائيلي، وإلى حد كبير الأمريكي، في ظل هيمنة عقلية الإبادة والقتل والتهجير التي تسود المجتمع والإعلام والأحزاب السياسية في "إسرائيل". ويتعزز طرح التهجير على خلفية الإبادة الجماعية عبر تقديم هذه الحرب من قبل نتنياهو والإدارة الأمريكية بأنها حرب "الأخيار" ضد "الأشرار"، في استحضار أكثر بشاعة لشعار جورج بوش الابن الذي برر إقامة ما سمي بالتحالف العالمي ضد الإرهاب، وهو شعار "إما معنا أو مع الإرهاب"، وبحيث تبدو حرب "إسرائيل" على الفلسطينيين اليوم بأنها حرب العالم "المتمدن" و"الحر" ضد الإرهاب الحمساوي الداعشي، كما قال نتنياهو مرارا.
إلا أن مخطط ودعوات التهجير والتطهير العرقي تواجه الكثير من التحديات والمعيقات، أهمها على الإطلاق صمود وقدرة المقاومة في غزة على إلحاق خسائر فادحة في الجيش الإسرائيلي، وهو ما يبدو حاضرا حتى الان. فمع قناعتنا -شأن الكثير من المحللين والمؤرخين والمراقبين- بأن "إسرائيل" انتظرت دوما فرصة للتخلص من غالبية، إن لم يكن كل الفلسطينيين في الضفة وغزة لحسم مسألة التوازن الديمغرافي الذي تراه معضلة وتهديد أمني ذو مضمون وجودي، فإن التوازنات القائمة في الإقليم اليوم، ووجود حلفاء إقليميين للمقاومة، واحتمالات أن تؤدي عملية تطهير عرقي على هذا النطاق إلى حرب إقليمية لا يمكن لأحد التكهن بمالاتها، ستجعل هذا الخيار أقل جاذبية وبخاصة للولايات المتحدة وبعض الأطراف في الإقليم. وهذه الاعتبارات هي التي تحول حتى الان إلى تعذر إنشاء تحالف إقليمي للمشاركة علنا في محاربة حركة حماس، ولكنها لا تلغي طرح خيارات بديلة لا تقل خطورة عن التهجير، بل يمكن أن تتضمن التهجير وتذهب إلى أبعد منه من الناحية الاستراتيجية.
تناولت العديد من المصادر الإعلامية ما يسمى خيارات ما بعد حكم حماس في غزة، وكلها تنطلق من افتراض مسبق بأن "إسرائيل" وحلفائها، والعجز العربي الفاضح، يمكنها أن تنهي وجود حركة حماس. إن لم يكن بالمعنى الدقيق والضيق للكلمة: أي هزيمتها وهزيمة المقاومة عسكريا وتصفيتهما، فبالمعنى الأوسع: تجريد المقاومة من السلاح، وتصفية نفوذها المؤسسي والمدني، وبنيتها التحتية؛ وبالتأكيد وجودها كمشروع سياسي. وتتساوق مع هذا الافتراض المسبق بعض الأصوات الفلسطينية والإقليمية. ومرد هذا الافتراض هو الإصرار الأمريكي على لسان الرئيس بايدن ووزير خارجيته بأنه "لا عودة لما قبل 7 أكتوبر"، وبأنه "لا وجود لحماس في غزة ما بعد الحرب"، وهو الاستجابة غير المشروطة للإرادة الإسرائيلية، بقدر ما يعكس التصورات الأمريكية للشرق الأوسط الجديد بدون وجود قوى يمكن أن تعطله.
ويمكن الاستدلال على ملامح التصور الأمريكي لمستقبل قطاع غزة "ما بعد حماس" من خلال الإفادة التي قدمها وزير الخارجية بلينكن أمام الكونغرس أول أمس في رده على رؤية الإدارة لمستقبل القطاع، وبما يبرر الموافقة على التمويل الذي تطلبه الإدارة (مثلما أشرنا سالفا)، حيث قال: "عند نقطة معينة فإن ما هو معقول أكثر من غيره هو أن تتولى السلطة الفلسطينية كسلطة فعالة وذات قدرة مسؤوليات الحكم والأمن في قطاع غزة". المعضلة بالنسبة للإدارة الأمريكية بشأن هذا الخيار مزدوجة: فمن جهة هي تنظر إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها ضعيفة ولا يعتمد عليها ويعتريها الفساد ما يجعلها غير مؤهلة لهذه المهمة، ومن جهة ثانية فإن هذا الخيار سيضع السلطة في مواجهة الغزيين، ويظهرها كسلطة عميلة أتت إلى غزة على جثث بناتها وأبنائها، أو على ظهر دبابة "إسرائيلية". وليس من الغريب أن يأتي هذا التصريح ليكرر ما جاء في مقالة مشتركة غاية في الخطورة نشرها كل من "دنيس روس" و"روبرت ساتلوف" و"ديفيد ماكوفسكي" في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني بتاريخ 17 أكتوبر 2023. وهؤلاء ليسوا مجرد باحثين عاديين، بل لهم تأثير بالغ في قرارات السياسة الخارجية الأمريكية ذات العلاقة بالشأن الفلسطيني والإسرائيلي، كما أن المعهد هو من أبرز مراكز التفكير ذات التأثير الكبير في واشنطن. وتناول مقالهم وهو عبارة عن ورقة سياسات تفصيلية رؤيتهم لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب. وترتكز ورقتهم على ثلاثة أهداف استراتيجية أولها ضمان ألا تتمكن حركة حماس من شن أية هجمات على إسرائيل. وتمضي الورقة لتحديد الأدوار الواقعة على عاتق الإدارة الأمريكية وأبرزها "مساعدة الفلسطينيين والإسرائيليين على التخطيط الان لملء فراغ الحكم الذي سيتركه إنهاء حكم حماس، وبحيث لا يملئه لاعبون سيتسببون في جلب عدم الاستقرار." ولأن السلطة الفلسطينية -حسب الورقة- غير مؤهلة الان للعب هذا الدور إلا بعد أن تجري عمليات إصلاح شاملة، فإن إدارة قطاع غزة ستتم من خلال إنشاء إدارة مؤقتة تدير القطاع تتكون من أجهزة إدارية وأمنية تحت إشراف إقليمي وبمشاركة "فلسطينيين"، وبحيث يمكن لدول الجوار أن تشارك في هذه الترتيبات، وتلعب فيها الإمارات العربية دورا محوريا. وكل ذلك من المفضل أن يكتسب الشرعية من خلال قرار لمجلس الأمن الدولي.
هذه هي خلفية التقرير نشره موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" (وهي صحيفة مقربة من الحكومة) حول مقترح يتم تداوله في الأوساط الإسرائيلية، بما فيها رئيس الوزراء نتنياهو الذي أبدى استعداده لنقاشه حسب التقرير. حيث أشار التقرير إلى إمكانية تطبيق نموذج بيروت 1982 على غزة، عندما وافق رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في حينه على خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت وكان قوامها 14 ألف مقاتل، بعد تعرض بيروت لحرب طاحنة وحصار استمر ثمانين يوما. فأمام غياب تصور أمريكي أو "إسرائيلي" واضح لاستراتيجية الحرب والنهايات المرجوة منها، وفي ظل الشكوك المتزايدة بقدرة "إسرائيل" حكومة وجيشها على حسم الحرب عسكريا، لا بد من مخرج ينقذ "إسرائيل" وواشنطن من هذه الورطة، ويمكن أن يكون هذا التصور والذي يجمع بين التهجير، والحسم العسكري عبر الإبادة، وبين تطويع كل الفلسطينيين، وضمان تشكيل تحالف دولي وإقليمي للتخلص من حماس والمقاومة، هو ما تعمل عليه أمريكا حاليا. وهو أمر يقف دونه عوامل عديدة ليس أقلها بأن حركة حماس، بعكس ما كانت عليه المنظمة في العام 1982، تقاتل على أرضها وفي قلب مجتمعها ومن أوساط شعبها، ومن غير المتصور أبدا بأن تقبل بهذا الطرح، ناهيك عن تعقيدات عملية وسياسية وقانونية تكتنفه. لكن يبقى من الثابت بأن "إسرائيل" ومن خلفها واشنطن بقدر ما تريدان التخلص من حماس والمقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية، بقدر ما تعانيان من الإجابة عن السؤال: كيف؟
© جميع الحقوق محفوظة
(طباعة)