بقلم: أ. كريم قرط، باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله
في ظل الحرب الهجمية التي تشنها دولة الاستعمار الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وانشغال العالم بها، تستغل دولة الاستعمار هذا الوضع لتسريع تنفيذ مخططاتها في الضفة الغربية. فالمتابع للوضع في الضفة الغربية فيما يتعلق بالاستيطان ومحاولات التهجير والتضييق على الشعب الفلسطيني ماديا واقتصاديا ونفسيا لدفعه للهجرة من أرضه؛ يلاحظ أنه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الثاني بدأت دولة الاستعمار ومستوطنوها بتسريع كل خطواتها، بل ومضاعفة وتطوير هذه الممارسات لفرض وقائع جديدة على الأرض تهيئ الطريق لتنفيذ المخططات الصهيونية القديمة فيما يتعلق بمستقبل الضفة الغربية.
قبيل عملية "طوفان الأقصى" كانت الضفة الغربية تشهد تصاعدا غير مسبوق في حجم الاستيطان ومخططات بناء المسوطنات، وعدد البؤر الاستيطانية المشرعنة، وعدد الوحدات السكنية الاستيطانية التي أقرتها حكومة الاستعمار الصهيونية، فضلا عن مخططات شق الطرق والشوارع الاستيطانية بما يجاوز مساحة 100 كلم، التي تبلغ تكلفتها أكثر من 6 مليارات شيكل. وفوق ذلك تصاعد عنف المستوطنين وتطوره كما ونوعا لدرجات خطيرة جدا تهدف إلى تسريع تهجير الفلسطينيين، وتحديدا من المناطق المصنفة (ج) التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية لإفراغها بأسرع وقت من سكانها الفلسطينيين. فحسب تقرير صادر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية هُجّر 1105 فلسطينيا من 28 تجمعا بدويا من أراضيهم منذ أوائل عام 2022 وحتى شهر سبتمبر/أيلول 2023 ، وجاء ذلك نتيجة عنف المستوطنين ومنعهم من الوصول إلى أراضي الرعي.
في المجمل، كانت الضفة الغربية تشهد تغيرات استيطانية متسارعة، تصاعدت حدتها مع حكومة المستوطنين التي تضم بين أقطابها سموتريتش صاحب "خطة الحسم" التي أعاد فيها إنتاج كل الأفكار الصهيونية فيما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني والضفة الغربية تحديدا، بناء على تصوره بأن مقاربة "إدارة الصراع" التي كانت تتبعها حكومات الاستعمار الصهيوني السابقة لا تلبي الغرض في السيطرة السريعة على الضفة الغربية وتهجير الشعب الفلسطيني منها.
أمام هذا الوضع المنذر بخطر محدق، اندلعت عملية طوفان الأقصى، التي كان ما يواجه الضفة الغربية والشعب الفلسطيني فيها أحد أهم عوامل اندلاعها. غير أن الاستعمار الصهيوني استغل حالة الحرب التي يشنها ضد قطاع غزة في تسريع تنفيذ مخططاته في الضفة الغربية في ظل الضوء الأخضر الذي حصل عليه من دول الغرب الراعية لوجوده.
تصاعد جرائم الاستعمار تجاه الضفة الغربية
بدأ الاستعمار الصهيوني منذ اليوم الأول للحرب ببث حالة من الخوف والرعب في الضفة الغربية، وتمثلت هذه الحالة بملاحقة الفلسطينيين على خلفية ما ينشرونه على وسائل التواصل الاجتماعي للتضامن مع أهل غزة. ومن ذلك أن جيش الاستعمار الصهيوني، وبتحريض ودعم من مستوطنيه، أقدم على هدم وتخريب ثلاثة محلات تجارية في حوارة وسلواد وقلقيلية بحجة أن أصحابها نشروا منشورات "تحريضية" على وسائل التواصل الاجتماعي.
وإلى ذلك فقد سُجلت حالات اعتقال على خلفية منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع أن جل هذه الحالات وُثّقت في القدس والداخل المستعمر، إلا أن الضفة الغربية كان لها نصيبها أيضا من حملة الاعتقالات هذه. وتتعمد أجهزة الاستعمار نشر صور المعتقلين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مرفقة إياها بتهديدات للشعب الفلسطيني من التضامن مع قطاع غزة.
وقد عمدت أجهزة الاستعمار الصهيوني إلى إنشاء عشرات الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، منذ بداية الحرب، وضخ تمويل كبير لمنشوراتها لتوجيه رسائل التهديد والوعيد، وأحيانا اعتماد وسائل الترغيب، للابتعاد عن التضامن والتفاعل مع قطاع غزة سواء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال التظاهر والاحتجاج على الأرض. وفي المقابل أخذت صفحات المستوطنين وقنواتهم على وسائل التواصل الاجتماعي تمارس تحريضا مباشرا على أشخاص ومؤسسات بعينها في الضفة الغربية، من خلال نشر صورهم وأسمائهم وأماكن إقامتهم والدعوة الصريحة إلى تصفيتهم.
وفي ضوء ذلك، شنت قوات الاستعمار الصهيوني حملات اعتقالات شرسة، بوتيرة يومية متصاعدة، في الضفة الغربية، إذ بلغ عدد المعتقلين منذ السابع من أكتوبر وحتى الأول من فبراير/تشرين الثاني نحو 1180 معتقلا في أنحاء الضفة الغربية، من بينهم أكثر من 700 معتقل يدعي الاستعمار أنهم ينتمون لحركة حماس. وقد طالت الاعتقالات نشطاء وإعلاميين وأساتذة جامعيين وباحثين، كما أقدمت قوات الاستعمار على اعتقال عدد ممن يعانون من أمراض وإعاقات حركية، في إشارة إلى أنه ليس هناك أحد معصوم من الاعتقال والملاحقة حتى لو كان يرقد في المشفى. ومعظم هؤلاء يحولون للاعتقال الإداري، ما ترافق مع إجراء سلطات الاحتلال تعديلات مؤقتة على أوامر الاعتقال الإداري بحيث مددت فترة توقيف المعتقل لفحص إمكانية تحويله للاعتقال الإداري من 72 ساعة إلى 6 أيام، وتمديد فترة عرض المعتقل على محكمة التثيبت الأولى لقرار الاعتقال الإداري لتصبح 12 يوما بدلا 8 أيام. وذلك في مسعى لتسهيل إصدار أوامر الاعتقال الإداري في ظل العدد الكثيف من الأسرى وزيادة أعدادهم عن القدرة الاستيعابية للمحاكم العسكرية الاستعمارية.
ومن ناحية أخرى، فقد بلغ عدد الشهداء في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر حتى الأول من نوفمبر/تشرين الثاني أكثر من 134 شهيدا، أي في أقل من شهر. وهذا الارتفاع غير المسبوق في أعداد الشهداء في الضفة الغربية، مع الملاحظ أن معدل ارتقاء الشهداء في الضفة كان قرابة 20 شهيدا شهريا حتى شهر سبتمبر/أيلول، جاء على نتيجة لعدة أمور، فهو يعكس رغبة الانتقام لدى جنود الاستعمار ومستوطنيه من كل من هو فلسطيني، بغض النظر عن انتمائه السياسي أو قرب وبعده من العمل الوطني. وتشير مشاهد تنكيل جنود الاستعمار بالمعتقلين الفلسطينيين، الذين يقال أنهم عمال من بلدة يطا، ومشاهد تعرية بعضهم كاملا وضربهم والدوس على رؤوسهم، وهي المشاهد التي نشرها جنود الاستعمار أنفسهم، إلى الرغبة العارمة بالانتقام الوحشي من الفلسطينيين.
وبالإضافة إلى الرغبة في الانتقام، فإن سلطات الاستعمار عمدت منذ بداية الحرب على إدخال تعديلات في أوامر إطلاق النار تعطي جنود الاستعمار صلاحيات واسعة في قتل الفلسطينيين، حيث تنص هذه التعديلات على أنه "يجوز لقائد المنطقة أن يأمر بمنح الإذن بفتح الذخيرة الحية على مثيري الشغب، عندما تكون الحاجة العملياتيّة هي القيمة الأعلى"، وهذا ينطبق على الضفة الغربية وأراضي 48. ولذلك أصبحت معظم المظاهرات والاحتجاجات الشعبية تشهد ارتقاء شهداء أو وقوع إصابات حرجة تؤدي في حالات كثير إلى الاستشهاد على أثرها. وهو ما يشبه حالات الإعدام الميداني للفلسطينيين في الطرقات والشوراع، وقد تكون مجرد شبهة بسيطة بأحد الفلسطينيين كفيلة بإطلاق النار عليه واستشهاد، وقد حدث ذلك في عدة حالات، منها حالة استشهاد امرأة فلسطينية وإصابة ابنها في سلواد بعد أن أطلق جنود الاستعمار النار على سيارتهم في 12 أكتوبر/تشرين الأول.
وإلى ذلك، فإن قوات الاستعمار الصهيوني كثّفت منذ بداية العدوان من اقتحاماتها لبؤر المقاومة في الضفة الغربية وتحديدا في جنين وطولكرم، وقد بات استخدام الطيران الحربي المسير أمرا متكررا بكثرة يؤدي إلى ارتقاء أعداد كبيرة من المقاومين. ومن المحتمل أن يتطور استخدام الطيران الحربي بمختلف أشكاله في الضفة الغربية، في ضوء التهديدات التي وجهها جيش الاستعمار بقصف عدد من المباني في مناطق من شمال الضفة الغربية، وتحديدا تهديده بقصف فندق السينما في جنين للضغط على أحد المقاومين لتسليم نفسه.
وتشير هذه الاقتحامات المكثفة واستخدام الطيران إلى أن الاستعمار الصهيوني قد بدأ بتطبيق حرب استنزاف ضد بؤر المقاومة في الضفة الغربية متزايدة في حدتها وعنفها، ما يعني أن الاستعمار بالعمل على إنهاء ظاهرة المقاومة في الضفة الغربية، التي من المحتمل أن يوجه لها ضربة قوية عقب انتهاء العدوان على قطاع غزة.
وأمام هذه العوامل فإن أعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين تشهد ارتفاعا غير مسبوق ومستمر، تهدف من خلاله سلطات الاستعمار إلى تحييد الضفة الغربية عسكريا وجماهيريا عن المواجة وإفراغها من أية مقاومة مستقبلية للمشاريع الصهيونية.
إعادة هندسة الضفة الغربية
عملت منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية بمختلف أجهزتها وأدواتها على فرض تغييرات مهمة في الضفة الغربية منذ بداية الحرب على غزة. فمنذ اليوم الأول بدأت قوات الاستعمار بفرض إغلاق شامل على الضفة الغربية، وإغلاق الحواجز الفاصلة بين المدن والمحافظات الفلسطينية ومنع الفلسطينيين من التنقل عبرها، وخاصة حاجزة حوارة؛ القرية التي فرض عليها إغلاق شامل لإتاحة مرور المستوطنين منها دون أي عوائق.
وكذلك أخذت قوات الاستعمار تنشر المزيد من الحواجز على مداخل القرى والبلدات الفلسطينية لعزلها عن بعضها، كما ونشرت العديد من البوابات الحديدية والمكعبات الإسمنتية في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، علما أن الاستعمار كان يقيم في الضفة 645 عائقا وحاجزا أمام الحركة والتنقل في الضفة الغربية حتى نهاية شهر آب/ أغسطس. ما يعني أن الاستعمار فرض حالة حصار وعقاب جماعي على الضفة الغربية في تذكيربفترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي طوق خلالها جيش الاستعمار كل القرى الفلسطينية وعزلها عن بعضها بالحواجز والسواتر الترابية والمكعبات الاسمنتية.
ومع أن الأيام الماضية شهدت بعض التخفيف من وطأة هذا التشديد، إلا أن مسألة التنقل المرور على الحواجز ظلت مسألة خطرة جدا، بسبب الخوف من سياسات القتل والاعتقال الشرسة التي باتت حواجز الاستعمار أشبه بكمائن في ظلها، هذا مع انتشار شائعات بأن الاستعمار اتخذ قرارا باعتقال أي أسير سابق يضبط خلال مروره على حواجز الاستعمار. وإلى ذلك، فإن جنود الاستعمار يعمدون إلى تفتيش هواتف الفلسطينيين على الحواجز، التي قد تنصب فجأة في مناطق مختلفة، ومن يجدون على هاتفه أي صورة لأحداث 7 أكتوبر أو تضامن مع غزة، ينهالون عليه بالضرب المبرح ويعتقلونه في حالات كثيرة.
كما صعّدت قوات الاستعمار الصهيوني من عمليات هدم المنازل والمنشآت في الضفة الغربية، حيث أقدمت على هدم عدد من منازل منفذي عمليات المقاومة، وعدد آخر من المنازل بحجة البناء بدون ترخيص، وهو ما لا تمنحه سلطات الاستعمار ما يضطر الناس لبناء منازلهم بدونه، فتكون عرضة للهدم. ويشير تصاعد عمليات الهدم في هذه الفترة إلى أن هذه السياسة ستزداد حدتها في المرحلة المقبلة، إذ شهدت السنوات الأخيرة، وبشكل متزايد منذ بداية عام 2023، تصاعدا في عمليات الهدم لمختلف الأسباب والذرائع. ويمكن القول أنه، وحتى شهر سبتمبر/أيلول المنصرم بلغ معدل هدم المنازل والمنشآت شهريا قرابة 50 منزلا ومنشأة، عدا عن عشرات الإخطارات بالهدم والإخلاء، التي تتركز معظمها في الأراضي المصنفة (ج) حسب اتفاقية أوسلو.
وقد كانت سياسة هدم المنازل المتصاعدة تهدف بشكل أساسي إلى إفراغ مناطق (ج) من أكبر عدد من أصحابها الفلسطينيين ودفعهم إلى الرحيل عنها بتضييق إمكانية البناء والتوسع العمراني تلبية للتزايد الطبيعي للسكان. ومنذ السابع من أكتوبر أخذت تتصاعد هذه السياسة وتمتد إلى مناطق مختلفة، في تعاون بين جيش الاستعمار الصهيوني ومستوطنيه. ففي كثير من الحالات هاجم المستوطنون بحماية جيش الاستعمار أطراف القرى الفلسطينية والتجمعات البدوية ودمّروا منازل أصحابها وممتلكاتهم.
وفي تكامل مع سياسات الحصار والتضييق أخذ عنف المستوطنين يتزايد هو الآخر بمختلف الصور والأشكال. والأمر الخطير هو أن هذا العنف بدأ ينحو نحو المأسسة. فمنذ بداية الحرب بدأت سلطات الاستعمار بإنشاء ميلشيات من المستوطنين في الداخل ومستوطنات الضفة الغربية بلغ عددها 368 مليشيا، لتكون على استعداد دائم لدعم شرطة الاستعمار وجيشه. وقد جاءت المبادرة لإنشائها من الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، الذي يعتزم إنشاء المزيد من هذه المليشيات ونشرها في مدن الداخل. ويترافق ذلك مع حملة توزيع السلاح على المستوطنين التي يقودها بن غفير، حيث أُعلن أنه وُزّعت 4000 قطعة سلاح وهناك آلاف القطع الآخرى التي يستمر، وجزء كبير من هذه الأسلحة الموزعة ذهبت لميلشيات المستوطنين في الضفة الغربية. وقد انضم مجلس مستوطنات شمال الضفة الغربية إلى حملة توزيع السلاح ليعلن عن بدء توزيع مئات قطع السلاح على المستوطنين.
تبشر هذه المأسسة المستمرة لعنف المستوطنين بأن هذا العنف سيبلغ مستويات غير مسبوقة تترتب عليها نتائج خطيرة على الوجود الفلسطيني في الضفة الغربي. فخلال السنوات الماضية كانت ظاهرة عنف المستوطنين تتصاعد شيئا فشيئا، وقد شهدت الأشهر الأخيرة تصاعدا ملوحظا في هذه الظاهرة كما ونوعا. ففضلا عن تزايد أعداد حالات عنف المستوطنين وضحاياها، بدأ ظواهر مثل الهجوم على القرى الفلسطينية وارتكاب محارق فيها، مثل حوارة وترمسعيا، تترسخ وتصبح أحد أبرز أشكال عنف المستوطنين الجماعي المدعوم من جيش الاستعمار الصهيوني.
ما أن بدأت الحرب، حتى انتشر المستوطنون على الشوراع وهاجموا القرى الفلسطينية، وأخذوا يصعدون موجات عنفهم تجاه الفلسطينيين، فحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان نفّذ المستوطنون قرابة 400 اعتداء خلال شهر أكتوبر/تشرين الثاني، وأدت هذه الاعتداءت إلى استشهاد 9 فلسطينيين على يد المستوطنين.
وتتزامن هذه الاعتداءات مع موسم قطف الزيتون الذي يبدأ في شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام. فخلال هذا الموسم تصاعدت هجمات المستوطنين على قطافي الزيتون من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها مع التركيز على القرى المتطرفة أو القريبة من المتسوطنات والبؤر أو الشوارع الاستيطانية، وتحديدا على الطريق الواصل بين رام الله ونابلس.
وقد تنوعت هذه الاعتداءات الممنهجة، بين قتل مباشر للفلسطينيين أو إصابتهم بجروح مختلفة خلال قطفهم للزيتون، ومنعهم من التوجه إلى حقولهم وتخريب أراضيهم وأشجارهم وسرقة محاصيلهم ومعداتهم.
وإلى ذلك، أدى عنف المستوطنين إلى تهجير 9 تجمعات بدوية في مختلف أماكن وجودهم في الضفة الغربية، بواقع أكثر من 800 فلسطيني، خلال شهر أكتوبرفقط. وفي الحالات التي أذن جيش الاستعمار الصهيوني لبعض سكان تجمعات معينة بالعودة إلى منازلهم وجدها هؤلاء قد دمّرت تدميرا تاما على أيدي المستوطنين بحراسة جيش الاستعمار. وفي ظل استمرار هذا العنف المدعوم والمشجع من جيش الاستعمار فإن التهجير يتهدد بقية التجمعات البدوية والقرى المعزولة، لا سيما وأن أهالي تلك التجمعات والقرى يجدون أنفسهم في خوف دائم من استفراد المستوطنين بهم وارتكاب مجازر بحقهم بعيدا عن الأنظار.
ولم يكتف المستوطنون بالممارسة الفعلية للقتل والتهجير، وإنما عمدوا إلى بث موجة من الدعاية النفسية التي تهدد الفلسطينيين بالقتل وتدعوهم إلى الرحيل على أراضيهم، ومن ذلك المنشورات التي ألقاها المستوطنون في قرية دير استيا في سلفيت تحت عنوان "إذا أردتم الحرب فانتظروا النكبة الكبرى"، وهددت فيها الفلسطينيين بالقتل إذا لم يهاجروا إلى الأردن.
وأمام هذا التصاعد في عنف المستوطنين وتبعاته صدرت عن المؤسسة الأمنية الصهيونية اعتراضات على هذا العنف المفرط الحالي في الضفة الغربية، وهي ذات الاعتراضات الأمريكية بهذا الخصوص. غير أن هدفها هو منع فتح جبهة جديدة في الضفة الغربية ضد الاستعمار تفقده تركيزه على قطاع غزة أو على جبهة الشمال مستقبلا. وما هي إلا محاولة لتحييد ساحة الضفة الغربية في مواجهة لمبدأ وحدة الساحات الذي تحاول المقاومة أن ترسّخه منذ معركة سيف القدس 2021. فقوات الاستعمار الصهيوني تشارك المستوطنين مشاركة تامة في إجرامها وعنفها، بل وتتفوق عليها، وتمنح المستوطنين حماية كاملة لتنفيذ ما يريدونه وتنساق لتحريضهم تجاه الفلسطينيين. فعنف المستوطنين هو أداة استعمارية فعالة لتنفيذ مخططات المشروع الصهيوني في الضفة الغربية لاقت دعما ورعاية وتشجعيا منذ البداية، ومع اشتدادها وبلوغها مستويات خطيرة، مثل الهجوم على حوارة لأول مرة، لم تتخذ دولة الاستعمار الصهيوني أو أي من الدول الغربية المنتقدة لظاهرة عنف المستوطنين أي إجراء لوقفه أو منع تكرر محارقه في القرى الفلسطينية.
الخاتمة
كان أحد أهم عوامل اندلاع عملية "طوفان الأقصى" هو مخطط ضم الضفة الغربية الزاحف الذي أخذت وتيرته تتصاعد في ظل حكومة المتطرفين الصهيونية بزعامة نتانياهو – سموتريتش – بن غفير. فخلال قرابة العامين حاولت فصائل المقاومة، وتحديدا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، تصعيد المقاومة في الضفة الغربية وإنشاء عدد من المجموعات المسلحة، التي تركز وجودها في شمال الضفة الغربية، غير أن هذه المحاولات كانت تواجهها عوائق كثيرة تبطئ من سرعة تحولها إلى ظاهرة قادرة على مواجهة المشروع الاستعماري الاستيطاني المتسارع.
وفي ظل الضوء الأخضر الأمريكي الغربي لدولة الاستعمار الصهيوني، الذي فاق المتوقع بكثير، فإنها أخذت تستغل ظروف الحرب القائمة لتنفيذ خطوات عملية على الأرض قد تعجل في تنفيذ ذلك المشروع القاضي بضم الضفة الغربية وتهجير أكبر عدد من سكانها.
فتصاعد هذه السياسات، لا سيما عنف المستوطنين وعمليات الهدم وتضييق البناء والتوسع، سيسرع من وتيرة تفريغ مناطق (ج) من الفلسطينيين، وربما يتعداها لمناطق (ب) بحيث يصير الوجود الفلسطيني محصورا في معازل ضيقة جدا في الضفة الغربية. ومع أن هذه السياسة كانت تسير على قدم وساق قبيل السابع من أكتوبر إلا أن وتيرتها بدأت تتصاعد، وإن لم يكن هذا التصاعد ملاحظا بما فيه الكفاية بسبب الاهتمام الإعلامي والسياسي بالعدوان على قطاع غزة. ومع أن عمليات البناء الاستيطاني متوقفة الآن بسبب ظروف الحرب، فإن الواقع يشير إلى أنها ستتزايد حال انتهائها.
ما يعني أن السياسة الصهيونية الحالي الضفة تسعى لتحقيق هدفين، وهما تحييد الضفة الغربية عن المواجهة، لأن دخولها فيها سيسرع من تحقيق الهزيمة الاستراتيجية لدولة الاستعمار الصهيوني، التي بدأت ملامحها تتضح مع بداية العملية البرية في قطاع غزة. ويتفرع عن هذا الهدف أمر آخر وهو تفريغ الضفة الغربية من أي قدرة عسكرية أو شعبية أو قيادية قادرة على مواجهة المشروع الصهيوني بعد انتهاء الحرب. وإلى ذلك، فإن هذه السياسات ليست سوى استمرار للمشروع الصهيوني الاستيطاني ولكن بصورة أسرع وأوضح. ولكن يبدو وأن صانع القرار في الضفة الغربية غير مدرك ألبتة لطبيعة المشروع الصهيوني، الذي كان يتسارع بشدة قبيل عملية "طوفان الأقصى"، والذي سيعمل على تطبيق "خطة الحسم" بحذافيرها في الضفة الغربية في حال تحققت خططه في القضاء على المقاومة في قطاع غزة.
© جميع الحقوق محفوظة
(طباعة)