العلاقات الفلسطينية الأمريكية.. إلى أين؟
تاريخ النشر: 24/10/2018 - عدد القراءات: 5063
العلاقات الفلسطينية الأمريكية.. إلى أين؟
العلاقات الفلسطينية الأمريكية.. إلى أين؟


بقلم: تسنيم ياسين

 مقدمة

في العاشر من سبتمبر أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، في خطوة هي امتداد لإجراءات سبقتها تمثل عقوبات من الإدارة الأمريكية على السلطة الفلسطينية.

وقال بيان وزارة الخارجية الأمريكية إن "منظمة التحرير الفلسطينية لم تتخذ أي خطوة لدعم البدء في مفاوضات مباشرة وجادة مع إسرائيل" وأدان "رفض" الفلسطينيين خطة السلام الأمريكية التي لم يعلن عنها بعد.(1)

وكانت الخارجية الأمريكية هددت العام الماضي بإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير إذا استمرت السلطة الفلسطينية في دفع محكمة العدل الدولية إلى التحقيق في ما قالوا إنه خرق إسرائيلي للقوانين والأعراف الدولية في معاملة الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. (2)

وقبل هذا الإعلان كانت الإدارة الأمريكية أعلنت إيقاف جميع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية باستثناء المخصصة منها إلى الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، البالغة 100 مليون دولار سنوياً لأنها بحسب قرار الكونغرس مهمة لحفظ التنسيق مع إسرائيل.

وتخصص الولايات المتحدة الأمريكية دعماً مالياً في المناطق الفلسطينية يقدر بنحو 300 مليون دولار، يتم صرفه عبر ثلاث قنوات أساسية، أولها دعم الملف الأمني في الضفة الغربية بقيمة 100 مليون دولار سنوياً، كما أنه يتم تخصيص 150 مليون دولار لمشاريع تطوير البنى التحتية عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، أما عن الدعم المخصص للموازنة فلا يتجاوز الـ50 مليون دولار سنوياً. (3)

وهذه ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الإدارة الأمريكية قراراً بوقف المساعدات عن الفلسطينيين، فقد جمدت عام 2016 مبلغ 221 مليون دولار من المنحة التي تقدمها سنوياً للسلطة الفلسطينية، والبالغة إجمالاً 380 مليون دولار، بسبب تخصيص السلطة الفلسطينية جزءاً من موازنتها للأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل.(4) 

وتأتي هذه القرارات الأخيرة بعد مصادقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على قانون "تايلور فورس" الذي يمنع وزارة الخارجية الأمريكية من إرسال أي تمويل للسلطة الفلسطينية، وسمي بذلك نسبة للشاب الذي خدم بالجيش الأمريكي ثم قتل بيافا على يد شاب فلسطيني.(5)

"وقد سبق لأميركا والصهاينة والأوروبيين أن أوقفوا المساعدات المالية والضخ المالي بهدف إخضاع السلطة وإجبارها على تلبية بعض المتطلبات، وكانت السلطة تستجيب في النهاية وتلبي ما يطلبون.

فمثلاً، توقف الضخ المالي للسلطة بعدما تم تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة الدكتور سلام فياض وذلك بعد اتفاق مكة المكرمة.

والنتيجة كانت أن انهارت الحكومة وتم إخراج حماس من المعادلة، وتشكلت حكومة وفق المقاييس الصهيونية والأميركية، فعاد المال.

 وتكرر هذا المشهد بخاصة عندما كانت تشذ السلطة بعض الشيء عما هو متوقع منها، وكان الخضوع للابتزاز هو السائد". (6)

تقدم هذه الورقة عرضاً مختصراً للعقوبات الأمريكية على السلطة الفلسطينية وأثرها وردود الأفعال المعلنة، مع محاولة استشراف النتائج والحلول الممكنة بيد أطراف النزاع خاصة السلطة الفلسطينية.

السلطة الفلسطينية في مرحلة إدارة ترامب

منذ فوز الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالرئاسة الأميركية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ظهر العديد من التسريبات حول استراتيجيته لتسوية النزاع العربي-الإسرائيلي والتي تم وصفها بـ"صفقة القرن". وتحتوي استراتيجية ترامب على مجموعة من المحاور الهادفة إلى تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من سبعين عاماً.

وبناء على التسريبات المختلفة التي بدأت تظهر منذ أواخر العام 2017، يمكن تلخيص استراتيجية ترامب بثلاثة محاور أساسية والتي تشمل تَصْفِيَة القضايا الكبرى بما فيها مسألتا القدس واللاجئين، وبناء تحالف إقليمي يضم إسرائيل ويستهدف إيران وحركات المقاومة، وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السيادة والصلاحيات. (18)

أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 6 ديسمبر/كانون الأول الماضي، اعتبار القدس، بشقيها الشرقي والغربي، عاصمةً لإسرائيل، والبدء بنقل سفارة بلاده إليها، ما أشعل غضباً في الأراضي الفلسطينية، وتنديداً عربياً وإسلامياً ودولياً، وخيب آمال الفلسطينيين الذين يريدون القدس الشرقية عاصمة لدولتهم.

الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إلى المدينة المحتلة يعتبر انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية المتعلقة بالقدس، وهو تشجيع للاحتلال الإسرائيلي لمواصلة السير في النهج نفسه، وقد كفلت قرارات الشرعية الدولية تجسيد قيام دولة فلسطين على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، بالإضافة إلى أن المدينة واقعة تحت سلطة الاحتلال.(7)

أثار هذا الموقف المتطرف من الإدارة الأمريكية، الداعم بوضوح لإسرائيل عكس ما اعتاد عليه الفلسطينيون من دعم متخفٍ (رغم وضوحه)، فمن جهته قال الرئيس الفلسطيني إن نقل السفارة هو انسحاب كامل للولايات المتحدة الأمريكية من عملية السلام، مشدداً على أن هذه الخطوة تدعم الفكر المتطرف الذي يريد تحويل الصراع إلى حرب دينية.  

وقال رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد الله إن قرار الرئيس الأميركي مستنكر ومرفوض ومستفز وتقويض لإحياء عملية السلام، ويمثل إنهاء لدور أميركا بوصفها راعية لعملية السلام.

وأعلنت فصائل العمل الوطني والإسلامي في القدس المحتلة إضرابا عاما يوم صدور قرار ترامب، ودعت رابطة علماء فلسطين الأمة الإسلامية والشعب الفلسطيني إلى إطلاق انتفاضة شعبية رداً على قرار ترامب.

أما حركة المقاومة الإسلامية حماس وعلى لسان إسماعيل رضوان القيادي في الحركة، فاعتبرت أنّ القرار من شأنه أن يفتح أبواب جهنم على المصالح الأمريكية في المنطقة، داعيًّا الحكومات العربية والإسلامية إلى قطع العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الإدارة الأمريكية وطرد السفراء الأمريكيين لإفشاله.

وخرج الفلسطينيون في مسيرات منددة للقرار، وكان هذا الحدث عنواناً لإحدى المسيرات الأسبوعية التي ينظمها سكان قطاع غزة للتأكيد على رفض الشعب الفلسطيني هذا القرار.

وعلى المستوى الدولي فقد أدانت عدد من الدول العربية القرار معتبرة أنه يقوض كل حلول السلام المطروحة ويصعب عملية الوصول إلى حل للصراع، ولم تختلف ردود الفعل الدولية التي اعتبرت أن القرار مخالف للقانون الدولي، داعين إلى تطبيق خيار حل الدولتين. (8)

ردود الفعل هذه لم تقف أمام تطبيق الإعلان، فقد تمت المراسم يوم الإثنين الموافق الرابع عشر من أيار الماضي بحضور وزير الخزانة الأمريكية، ستيفن منوشين، ومساعد وزير الخارجية، جون سوليفان، وابنة الرئيس الأمريكي، إيفانكا ترامب وزوجها غاريد كوشنر، بمقاطعة عدد واضح من المسؤولين الأوروبيين لاعتبارهم الأمر مخالفاً للقانون الدولي. (9)

إجراءات عقابية متتالية

مثلت العلاقات الأمريكية الفلسطينية حالة من الاستقطاب والسعي الدؤوب نحو تحقيق مصلحة وأمن الكيان الصهيوني. ومنذ بداية عملية السلام الهشة منذ كامب ديفيد 1978 لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دوراً غير نزيه في دعم الاحتلال الإسرائيلي، وتنامى دورها مع مؤتمر أوسلو 1993، الذي على ضوئه شكلت المساعدات الأمريكية أداة من أدوات إخضاع السلطة وتوجيهها سياسياً تارة وتعميق الانقسام تارة أخرى.

وبذلك تقوم الإدارة الأمريكية بتقديم المساعدات للسلطة الفلسطينية من أجل بنائها وترسيخ اعتمادها على الحد الأدنى الذي تصبح به أداة ضغط حال تعثر العملية السلمية والتي تفتح آفاق النجاح أمام الإستراتيجية الأمريكية، حيث لم تتوان طول تاريخ العملية السلمية الزائفة من استخدام هذه المساعدات كأداة ضغط على الفلسطينيين من أجل دفع العملية السلمية بالاتجاه الذي يخدم المصالح الإسرائيلية الأمريكية على حساب سياسات السلطة الفلسطينية، وقد اتضحت هذه الرؤية من خلال القرارات والتغريدات الأخيرة. (10)

ومنذ قدوم إدارة ترامب، توالت التصريحات المهددة للسلطة الفلسطينية بقطع المساعدات المالية، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر الممولين الماليين للسلطة الفلسطينية بتمويل يصل إلى 350 مليون دولار سنويا من أصل 1.2 مليار دولار هي قيمة المساعدات الخارجية الممنوحة للسلطة الفلسطينية سنويا.

وتعاني السلطة الفلسطينية من تراجع حاد في قيمة المساعدات الخارجية الممنوحة لها في السنوات الأخيرة حيث لم تتخط قيمة المنح و المساعدات الخارجية لهذا العام حاجز450 مليون دولار مقارنة بـ 1.2 مليار دولار لعام 2012، وهو ما تسبب في رفع فاتورة الدين العام على للسلطة ليتخطى حاجز 4.8 مليار دولار وفق بيانات وزارة المالية.(11)

فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية الجمعة (24 أب/أغسطس 2018) أن الولايات المتحدة ستخفض أكثر من 200 مليون دولار من المساعدات للفلسطينيين وذلك وسط تدهور العلاقة مع القيادة الفلسطينية، وستخصص هذه الأموال لتميل مشروعات ذات أولوية قصوى في مناطق أخرى. (12)

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قررت، في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي، تقليص مساهمتها في ميزانية الأونروا بنحو 125 مليون دولار أمريكي، وذلك عقب تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسفيرته بالأمم المتحدة نيكي هايلي، بوقف تقديم المساعدات المالية للفلسطينيين والسلطة الفلسطينية. (4)

وفي تلك الأثناء غرّد ترامب ضد السلطة الفلسطينية، مهدداً بوقف المساعدات المقدمة إلى الفلسطينيين، وقال إن واشنطن تعطيهم «مئات الملايين من الدولارات سنوياً ولا تنال أي تقدير أو احترام، فهم لا يريدون حتى التفاوض على اتفاق سلام مع إسرائيل تأخّر كثيراً،  متسائلاً: في ضوء أن الفلسطينيين لم يعودوا مستعدين للمشاركة في محادثات سلام، فلماذا نقدّم إليهم أياً من تلك المساعدات الكبيرة مستقبلاً؟ (10)

إلى ذلك قال أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر بغزة، معين رجب، أن "القرار الأمريكي بوقف المخصصات المالية سيكون له بالغ الأثر في الاستقرار المالي للسلطة، فعند احتساب حصة المساعدات الخارجية ( 1.2 مليار دولار) بجانب الفجوة التمويلية للموازنة التي تبلغ 350 مليون دولار سنصل إلى عجز تمويلي في الموازنة يتخطى 1.5 مليار دولار، وفي حال لم تتقدم أي دولة لتعويض ما كانت تقدمه الولايات المتحدة من مساعدات فإن السلطة ستواجه أكبر عجز مالي في تاريخها بتخطيه لحاجز 1.3 مليار دولار للعام القادم." (11)

ورداً على العقوبات المالية، رأت عضوة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حنان عشراوي، أن "الإدارة الأمريكية أثبتت أنها تستخدم أسلوب الابتزاز الرخيص أداة ضغط لتحقيق مآرب سياسية"، فيما قال الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني جهاد حرب لوكالة فرانس برس إن "أمريكا الآن تشارك حكومة إسرائيل اليمينية أحلامها وسياساتها".

ومن جهته، قال كوبي ميكائيل، المسؤول السابق في وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية المكلفة بالمسائل الفلسطينية، إن قرار ترامب يشكل خطوة لصحوة ضرورية للقيادة الفلسطينية. وأضاف: "أعتقد أن الإدارة الأمريكية تفعل ما كان يجب فعله منذ عقود". (12)

أما مكتب منظمة التحرير الذي أعلن عن إغلاقه في العاشر من سبتمبر فأتى بعد ممارسات أمريكية متتابعة للتضييق عليه، ورفضت الإدارة الأمريكية تجديد تصريح عمل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن في الوقت المحدد؛ ما دفع الفلسطينيين إلى التهديد بتجميد العلاقات مع الولايات المتحدة في حال إغلاق المكتب.

وللمرة الأولى منذ ثمانينيات القرن الماضي، تتأخر واشنطن في تجديد أوراق عمل المكتب، في حين يسعى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى الحصول على أوراق مساومة في محاولته التوصل إلى اتفاق سلام صعب المنال بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

ويتوقف بقاء مكتب منظمة التحرير، التي يعتبرها المجتمع الدولي الجهة الممثِّلة رسمياً لجميع الفلسطينيين، مفتوحاً في واشنطن على تصريح من وزير الخارجية الأمريكي يجدَّد كل ستة أشهر، وقد انتهت الأشهر الستة السابقة الجمعة 17 نوفمبر 2017.

من جهته، عبّر نبيل شعث، مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الخارجية، عن رفضه القاطع لـ"سياسة الابتزاز"، التي تنتهجها الإدارة الأمريكية تجاه الفلسطينيين، واستخدام "منظمة التحرير" كورقة ضغط للي الذراع وتمرير سياسات مرفوضة. (14)

وبحسب تصريحات صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير إن الإدارة الأمريكية أبلغت الفلسطينيين رسميا بأنها ستغلق مقر منظمة التحرير في واشنطن.

وأدان عريقات قرار الإدارة الأمريكية، واصفا هذه الخطوة المتعمدة، بالهجمة التصعيدية المدروسة "التي سيكون لها عواقب سياسية وخيمة في تخريب النظام الدولي برمته من أجل حماية منظومة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه"، وذلك وفقاً لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفا".

وقال عريقات: "لقد تم إعلامنا رسميا بأن الإدارة الأمريكية ستقوم بإغلاق سفارتنا في واشنطن عقاباً على مواصلة العمل مع المحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم الحرب الإسرائيلية، ليس ذلك فحسب، بل تقوم الإدارة الأمريكية بابتزاز المحكمة الجنائية الدولية أيضا وتهدد مثل هذا المنبر القانوني الجنائي العالمي الذي يعمل من اجل تحقيق العدالة الدولية". (15)

الصحف العربية والفلسطينية تناولت القضية من خلال آراء كتابها، فقد وصفت "القدس" الفلسطينية الخطوة الأمريكية بأنها "قرار أمريكي عدواني جديد ضد شعبنا وقضيته الوطنية"، ودعت الصحيفة السلطة الفلسطينية إلى "إعادة تقييم الأوضاع بعد فشل عملية السلام، بل وموتها سريرياً، والعمل على إعادة وحدة الصف الوطني لمواجهة تحديات المرحلة".

وانتقدت "رأي اليوم" اللندنية السلطة الفلسطينية لتحولها إلى "سلطة رد فعل وليس سلطة فعل" بسبب انتظارها الخطوة الأمريكية بإغلاق البعثة الفلسطينية في واشنطن، وقالت الصحيفة في افتتاحيتها: "كان عليها اتخاذ القرار بنفسها قبل سِتة أشهر، وبالتحديد عندما قرَّرت الإدارة الأمريكية نقل سفارتها إلى القدس المحتلة، والاعتراف بها كعاصمة أبدية لدولة الاحتلال الإسرائيلي". (16)

أما عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين طلال أبو ظريفة فقال أن قرار الإدارة الأمريكية هو "لعبة سياسية سخيفة، ويصب في صالح توفير الحماية لحكام إسرائيل، من المساءلة والمحاسبة على الجرائم التي ترتكبها في الأراضي الفلسطينية". (17)

العلاقات الأمريكية الفلسطينية، إلى أين؟

بينما تتوالى التطبيقات الواقعية الحقيقية للوعود التي أعلنها ترامب طوال فترة دعايته الانتخابية وفي كل مؤتمراته وتغريداته مع ضرب كل التصريحات الدولية المناوئة لها بعرض الحائط، يبقى السؤال الأكبر: هل ستستمر الأطراف الفلسطينية بتلقي الضربات والتهديدات المطبقة والخروج بتصريحات لا تعدو كونها لحفظ ماء الوجه؟ أم أنها ستنتقل فعلاً لخطوات واقعية مع محاولة معالجة تبعيات القرار الأمريكي؟ وما الذي تملكه السلطة الفلسطينية والأطراف كلها في مواجهة تغريدات ترامب؟

ضمن مساعي القيادة الفلسطينية لخلق ضغوط متزايدة على الجانب الإسرائيلي والإدارة الأميركية والمجتمع الدولي للتحرك لإنقاذ عملية السلام، طلبت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من حكومة الوفاق الفلسطينية، في 3 فبراير/شباط 2018، البدء فورًا بإعداد الخطط لفكِّ الارتباط مع الاحتلال في جميع المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية. (19)

استجابت الحكومة الفلسطينية لهذا القرار وشكلت لجنة من الوزارات المختصة للبدء بإعداد الدراسات والمشاريع والمقترحات المطلوبة لفك الارتباط مع إسرائيل بما يشمل التحرر من اتفاق باريس الاقتصادي والانتقال من استخدام عملة الشيكل الإسرائيلي إلى أية عملة أخرى ودراسة إمكانية إصدار عملة وطنية. (20)

لكن، التهديدات الفلسطينية تفتقد لقراءات دقيقة لمعطيات الأمر الواقع. طبَّقت إسرائيل منذ اتفاق أوسلو، سياسات أمنية واقتصادية وإدارية رهنت وجود السلطة الفلسطينية واستمراريتها بالقبول الإسرائيلي.

 ومن الناحية الفعلية، إسرائيل هي من تحاول أن تنفك عن الفلسطينيين بما يحقق مصلحتها وليس العكس؛ فلم تبذل السلطة خلال السنوات الماضية أي مجهود حقيقي لتقليل الاعتماد على إسرائيل وبالتالي الانفصال عنها. بالمقابل، تعمل إسرائيل وبشكل ممنهج منذ أكثر من عشر سنوات على الانفكاك عن الفلسطينيين مع بقاء سيطرتها الأمنية.

ففي عام 2005، نفَّذت حكومة أرييل شارون خطة انسحاب إسرائيلي أحادي للمستوطنين وجنود الاحتلال من قطاع غزة لكنها أبقت سيطرتها الأمنية هناك. ومنذ ذلك الوقت، يخضع قطاع غزة لحصار مشدد تتحكم فيه إسرائيل بالمعابر والحدود.

وفي الضفة الغربية، تنفذ الحكومة الإسرائيلية، منذ العام 2010، سياسات متناسقة لاستعادة غالبية السلطات المدنية التي منحتها للسلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو. كما أن الإدارة المدنية الإسرائيلية عزَّزت من تفاعلها حاليًّا مع المجتمعات الفلسطينية المحلية وخاصة في المناطق "ج" الخارجة عن سيطرة السُّلطة الفلسطينية. وتهدف إسرائيل من ذلك إلى الارتباط بصورة مباشرة ودون المرور عبر مؤسسات السلطة الفلسطينية كما كان متبعًا من قبل. فعلى سبيل المثال، طورت إسرائيل حاليًّا من أساليب تواصلها مع المواطن الفلسطيني عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والواتساب؛ وذلك لكي تحقق هدفين مترابطين: تجاوز مؤسسات السلطة من جهة وخلق روابط جديدة (وبديلة) مع المواطنين الفلسطينيين والذين يسعون إلى تسيير حياتهم اليومية.

ويزداد وضع السلطة الفلسطينية تدهورًا مع استمرار الصراع الفلسطيني الداخلي والانقسام ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين.

تجعل هذه الأوضاع خيارات السلطة في غاية الهشاشة؛ فهي لم تطور آليات مقاومة داخلية للرد على الخطوات الإسرائيلية الميدانية على أرض الواقع من جهة، ومن جهة أخرى، فقدت تدريجيًّا شرعيتها ومصداقيتها الشعبية. ربما تدفع هذه الظروف السلطة الفلسطينية إلى السعي إلى تجديد شرعية قياداتها ولكن هذا المسار لن يكون محاطًا بالورود بل بالصراعات والنزاعات الداخلية. فالأوضاع الداخلية الفلسطينية تختلف حاليًّا عن مرحلة حصار الرئيس ياسر عرفات وإخراجه من اللعبة السياسية في عام 2004، ويتمثل الفارق الأبرز في عدم تبلور كتلة صلبة داخل مؤسسات السلطة الفلسطينية (وخاصة الأمنية) وحركة فتح لقيادة زمام الأمور، كما كان الوضع أثناء حصار عرفات والذي شهد في تلك الفترة تحالف محمود عباس، صاحب النفوذ في منظمة التحرير آنذاك، مع محمد دحلان، صاحب النفوذ في الأجهزة الأمنية، وخاصة الأمن الوقائي. (18)

ورأى مراقبون أن مواقف الولايات المتحدة تستدعي من الفلسطينيين "الترفُّع عن نزاعاتهم الداخلية غير المبررة"، والذهاب فورًا إلى رؤية فلسطينية موحدة للدفاع عن القدس المحتلة، وتحريك الموقف العربي والإقليمي والدولي لجهة مواجهة القرار الأمريكي، وأن المطلوب اليوم العمل الفلسطيني المشترك لتصعيد المواجهة مع الاحتلال ورفع كلفة احتلاله، والخروج بشكل عارم إلى الميادين والشوارع تنديدًا ورفضًا للمساس بالقدس. (21)

وعن الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين مع مجيء ترامب قال المؤرخ المعروف رشيد الخالدي: "يواجه الفلسطينيون أحد خيارين لا ثالث لهما؛ فإما أن يخضعوا ويستسلموا لإملاءات الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أو بإمكانهم أن يقوموا وبشكل جذري وعاجل بإعادة تعريف حركتهم الوطنية وأهدافها وأنماط مقاومتها ضد الظلم والاضطهاد". (22)

ورغم تهديد السلطة الفلسطينية بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وفك الارتباط مع إسرائيل وعدم العودة للمفاوضات برعاية الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن الرئيس محمود عباس أكد استعداد السلطة للعودة إلى المفاوضات مع إسرائيل سراً وعلناً خلال لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 21 أيلول، لافتاً إلى أن الرئيس الفرنسي سيتحدث مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن تطورات القضية. (23)

وبالتالي يظل السؤال عالقاً بدون إجابة فلا السلطة الفلسطينية قادرة على قطع العلاقات في ظل الوضع الحالي مع تدهور الاقتصاد الفلسطيني والانخفاض الكبير في المساعدات التي تتلقاها وعدم وجود بديل، وربما ينطبق ما قاله المعلق الأمريكي توماس فريدمان في مقال له على الواشنطن بوست بأنها تبنت استراتيجية "سأحبس أنفاسي حتى يصبح لون وجهك أزرق من الغضب". (24)

 ..........................

** إعداد الباحثة: تسنيم ياسين 

 المراجع

(1) الخارجية الأمريكية تعلن إغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، موقع بي بي سي عربي، 10 أيلول 2018، http://www.bbc.com/arabic/world-45473987

(2) المصدر السابق.

(3) أمريكا تستثني التنسيق الأمني من العقوبات على السلطة الفلسطينية، عربي21، 14 يوليو 2018، https://arabi21.com

(4) الولايات المتحدة تقلص مساعداتها للسلطة الفلسطينية بسبب "تصرفات حركة حماس"، وكالة سبوتنيك، 25 أغسطس 2018، https://arabic.sputniknews.com/arab_world

(5) ترامب يوقع على قرار يعاقب الفلسطينيين مالياً، رام الله الإخباري، 25 مارس 2019، https://ramallah.news

(6) عبد الستار قاسم، ترامب وقطع المساعدات المالية عن سلطة فلسطين، الجزيرة نت، 3 كانون الثاني 2018، http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions

(18) جرابعة، الخيارات الفلسطينية في مواجهة السياسة الأمريكية الجديدة إزاء الملف الفلسطيني، مركز الجزيرة للدراسات، 27 فبراير 2018، http://studies.aljazeera.net/ar/reports

(7) ماذا يعني نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؟ الجزيرة نت، 14أيار 2018، http://www.aljazeera.net/encyclopedia/events

(8) أبواب جهنم..أحد عشر رد فعل على نقل السفارة إلى القدس، مصر العربية، 6 ديسمبر 2017، http://www.masralarabia.com

(9) مراسم افتتاح السفارة الأمريكية الجديدة في القدس، سبوتنيك، 14 أيار 2018، https://arabic.sputniknews.com/world

(10) محمد، المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية تاريخ من الإملاءات والتبعية، 6 فبراير 2018، https://elbadil-pss.org

(11) هل ستتأثر السلطة الفلسطينية بوقف المساعدات الأمريكية، البوابة، 21 كانون الأول 2017، https://www.albawaba.com/ar

(12) إلغاء أكثر من 200 مليون من المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، DW، 25 آب 2018، https://www.dw.com/ar

(13) الولايات المتحدة تقلص المساعدات الفلسطينية بسبب "تصرفات حركة حماس"، سبوتنيك، 25 آب 2018، https://arabic.sputniknews.com/arab_world

 

 (14) بوادر أزمة .. واشنطن تساوم السلطة الفلسطينية على مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، الخليج أونلاين، 19 تشرين الثاني 2017، http://alkhaleejonline.net

(15) عريقات: إغلاق مكتب المنظمة بواشنطن لن يثنينا عن مواصلة مسارنا بالجنائية الدولية، وكالة وفا، 10 أيلول 2018، http://www.wafa.ps/ar

(16) صحف عربية: ترامب في مأمن من أي رد فعل فلسطيني أو عربي على إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، بي بي سي، 11 أيلول 2018، http://www.bbc.com/arabic/inthepress-45482916

 (17) ماذا بعد إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، سبوتنيك، 10 أيلول 2018، https://arabic.sputniknews.com/radio_panorama

(19) ما معنى فك الارتباط، الجزيرة نت، 5 شباط 2018، http://www.aljazeera.net/encyclopedia/conceptsandterminology

(20) الحكومة تقرر البدء بإعداد دراسة لفك الارتباط مع إسرائيل، رام الله الإخباري، 6 شباط 2018، http://goo.gl/89GvKd

(21) ما الخيارات الفلسطينية لمواجهة قرار ترامب، الاستقلال، 6 كانون أول 2017، https://www.alestqlal.com/post/4668

 (22) مؤرخ فلسطيني يقرأ خيارات الفلسطينيين لمواجهة ترامب، عربي 21، 29 يناير 2018، https://arabi21.com/story

(23) عباس يؤكد العودة للمفاوضات مع إسرائيل سراً أو علناً وحماس ترد، المشرق نيوز، 21 أيلول 2018، http://mshreqnews.net

(24) فريدمان: لهذا يجب على الفلسطينيين العودة للمفاوضات، عربي21، 19 أيلول 2018، https://arabi21.com/story

 

 

تم طباعة هذا المقال من موقع يبوس للإستشارات والدراسات الاستراتيجية (yabous.info)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)