خطة الشاطئ الأزرق: الرصيف العائم الأمريكي في خدمة أهداف الحرب الإسرائيلية
تاريخ النشر: 14/04/2024 - عدد القراءات: 865
خطة الشاطئ الأزرق: الرصيف العائم الأمريكي في خدمة أهداف الحرب الإسرائيلية
خطة الشاطئ الأزرق: الرصيف العائم الأمريكي في خدمة أهداف الحرب الإسرائيلية


بقلم: أ. كريم قرط، باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

أثار الرصيف البحري العائم، الذي أزعمت الولايات المتحدة الأمريكية أمرها على إقامته قبالة شواطئ غزة، جدلا لم يثره أي موضوع أخر خلال كل هذه الإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال ضد غزة وأهلها. فمنذ أن أعلن الرئيس الأمريكي في خطاب "حالة الاتحاد" في 7 مارس/آذار المنصرم عن أنه أصدر أوامره للجيش الأمريكي بالبدء في إنشاء رصيف بحري مؤقت قبالة شواطئ غزة للمساعدة في إيصال كميات مساعدات كبيرة إلى القطاع؛ بدأت موجة من التحليلات والشكوك والتكهنات والانتقادات تتصاعد حوله.

لا ريب أن هذه الموجة لها ما يبررها فهي مبنية على جملة من الحقائق على الأرض التي تجعل فكرة إنشاء رصيف عائم وكأنها فكرة "خبثية"، وإلى ذلك فما يعزز كل الشكوك المثار حول هذا المشروع هو حجم الغموض الذي يكتنفه.

إذ إن الإدارة الأمريكية تعمدت أن لا تنشر تفاصيل وافية حوله تحت ذريعة الاعتبارات الأمنية، ومن أهم التفاصيل التي أخفتها الإدارة الأمريكية هي الموقع الجغرافي التي سيحتله هذا الرصيف العائم سواء في جزئه المنشور في المياه أو في الجزء المتصل بشواطئ غزة. وكذلك تعمدت الإدارة الأمريكية إخفاء التفاصيل فيما يتعلق بمن سيشرف على هذا الرصيف داخل قطاع غزة سواء من ناحية تأمينه أو من ناحية توزيع المساعدات داخل قطاع غزة.

وقد ترافقت هذه المعطيات مع توجس من طبيعة الهدف النهائي المراد من إنشاء هذا الرصيف، لا سيما أن هذا النوع من الأرصفة العائمة ليس معهودا بكثرة في المنطقة، ما زاد من الشكوك والتكهنات حوله، وهذا في ظل أن الإدارة الأمريكية لم تعلن عن هدفه النهائي، على افتراض أن إدخال المساعدات ليس هو الهدف الحقيقي منه. إذ إن إنشاء هذا النوع من الأرصفة العائمة لإدخال المساعدات يأتي كاستجابة لظروف انعدام إدخالها بطرق أخرى، لا سيما الطرق البرية. وهذا الأمر مغاير للواقع في قطاع غزة من عدة نواحٍ:

1-    وجود معابر برية لقطاع غزة، يمكن استخدامها فورا لإدخال المساعدات، لا سيما وأن مئات الشاحنات تتكدس على طريق العريش رفح.

2-    وجود مينائين على شواطئ القطاع فعليا، ميناء غزة، وميناء خانيونس، ومع أنهما مجرد أرصفة صيادين، فإن البديهي أن تستخدم بنيتها التحتية كأساس لإرسال المساعدات عبر البحر، أو تطور بنيتهما لتمكينها من استقبال المساعدات.

3-    الأمر المهم الآخر، هو مشاركة الولايات المتحدة فعليا في الحرب على القطاع، بالتمويل والسلاح والذخائر والغطاء السياسي والإعلامي، والاتفاق على  أهداف العدوان مع الاحتلال. ما يمكنها أن تجبر الاحتلال على فتح المعابر وتسهيل إجراءات التفتيش والمنع على المساعدات بدلا من التوجه لإنشاء رصيف بحري عائم يتطلب وقتا، لا يملك أحد ترفه، وموارد مالية يمكن أن تستغل في توفير المساعدات.

غير أن معظم ما ينشر حول هذا المشروع أهدافه في معظمه تحليلات، وليس معلومات، وبعضها مجرد تكنهات، دون أن يعني ذلك أن هذه التحليلات ليست صحيحة بالمجمل. غير أن كثيرا منها يربط بين هذا الرصيف العائم وقضايا أخرى، فقط لاحتمالية وجود علاقة تشابه، قد تكون اسمية لا غير، بين الموضوعين، وهذا مثل الربط بين الرصيف ومشروع قناة بن غوريون، وبينه وبين مشروع يسرائيل كاتس لإنشاء جزيرة صناعية قبالة شواطئ غزة، فهذا النوع من التحليل غير مبني على أي أساس معرفي موضوعي.

يسعى هذا التقرير إلى محاولة توضيح ماهية هذا المشروع والتفاصيل التي رافقت الإعلان عنه، وكذلك استعراض أبرز ردود الفعل التي أثارها، ومناقشة أبرز الشكوك التي أثارها الإعلان عنه، ومحاولة تبيين أهدافه الآنية والمستقبلية.

مؤتمر باريس وخطة "أمالثيا"

فكرة إنشاء ممر بحري يربط غزة بقبرص، تحديدا، ليست جديدة، فقد أثيرت عام 2018، عندما وردت تقارير بأن وزير الحرب الصهيوني حينها أفيغدور ليبرمان، وافق على إنشاء رصيف بحري في قبرص لنقل البضائع إلى غزة يخضع لرقابة إسرائيلية، وذلك في إطار صفقة تبادل أسرى مع حركة حماس. ولكن لم يكن في التقارير ما يشير إلى إنشاء رصيف بحري في غزة أو اعتماد ميناء غزة كنقطة استقبال. غير أن هذا المخطط ذهب أدراج الرياح نتيجة عدم تحقيق أي تقدم في إطار صفقة التبادل وعدم جدية الاحتلال في هذا الإطار.

مع اشتداد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وشماله تحديدا، منذ بدأ حرب الإبادة عليه عقب عملية طوفان الأقصى، أخذت عدة جهات تناقش إيجاد طرق بديلة لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة في ظل الرفض الإسرائيلي لتخفيف وطأة الحصار. إذ عقد في العاصمة الفرنسية باريس ما عُرف بـ"المؤتمر الإنساني الدولي لمساعدة المدنيين في غزة" في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومشاركة عدد من الوفود الأوروبية والعربية والأممية. وكان محور هذا المؤتمر مسألة إدخال المساعدات إلى غزة وطرح مبادرات لهذا الغرض.

خلال هذا المؤتمر عرض رئيس قبرص  نيكوس خريستودوليدس خطة لنقل المساعدات إلى غزة عبر البحر تحت اسم "أمالثيا"، وفي الاسم رمزية كونه يشير إلى إلهة العطاء في الميثولوجيا اليونانية. وتتضمن هذه الخطة، حسب ما نقلت جريدة الأخبار اللبنانية، ثلاث مراحل:

1-    إقامة منصة عائمة قبالة شواطئ غزة لاستخدامها في نقل المساعدات تلبية للحاجات الإنسانية الملحة في القطاع.

2-    تأهيل ميناء غزة المدمّر وتوسيعه وتطويره ليكون قادراً على استقبال السفن الكبيرة، لاستخدامه مركزا لاستقبال المساعدات لاحقا.

3-    تنظيم خط بحري مفتوح مع غزة للتجارة ونقل المواد إعادة الإعمار، وأن تكون له إدارته كمرفأ رسمي.

غير أن هذه الخطة، التي جرى نقاشها مع عدد من الأطراف قبل عرضها، لم تحصل على الموافقة الإسرائيلية لأنها لا تخضع للإشراف الإسرائيلي من جهة، ولأنها تتضمن حلولا بعيدة الأمد لحصار غزة في حال دشن هذا الممر البحري الذي سيكون ميناء غزة قاعدته. وحسب جريدة الأخبار أيضا، فإن الولايات المتحدة أطاحت بهذه الخطة، بناء على طلب إسرائيلي ودعم إماراتي.

غير أن النقاشات، خلف الكواليس، قد استمرت بين عدة أطراف، ولعل اللقاء الذي جمع الرئيس القبرصي بوزير الخارجية الإسرائيلي السابق إيلي كوهن في 20 ديسمبر/كانون الأول، أي بعد مؤتمر باريس بما يزيد عن شهر، هو تأكيد على أن الترتيب لمخطط بديل قد استمر. إذ صرّح كوهن في هذا اللقاء أن "إنشاء ممر بحري إلى غزة سيساعد على فك الارتباط الاقتصادي لإسرائيل عن القطاع. ولن نسمح بالعودة إلى الواقع الذي سبق الهجوم الإرهابي القاتل في أكتوبر". وقد اضاف أنه من الممكن استخدام الممر لنقل المساعدات في المرحلة الحالية،ثم كوسيلة لنقل البضائع إلى غزة دون المرور بـ"إسرائيل".

كما تشير سرعة الإعلان عن بعض تفاصيل الخطة والمشاركين فيها، عقب إعلان الرئيس بايدن عن توجيهاته بإنشاء الرصيف، إلى أن أنه مخطط مدروس بعناية منذ فترة طويلة قبل الإعلان عنه. وعقب إعلان بايدن، صدر بيان عن الاتحاد الأوروبي وقبرص والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، في 8 مارس/آذار يعلن عزم هذه الأطراف على تنفيذ مشروع الممر البحري. وبعده بأيام، جرى اجتماع في قبرص على مستوى وزراء الخارجية، في 13 مارس/آذار، حضره وزراء خارجية قبرص والولايات المتحدة ا وبريطانيا والإمارات وقطر، كما ضمّ المفوض الأوروبي للمساعدات الإنسانية وإدارة الأزمات، يانس لينارشيش، وكبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، سيغريد كاغ، وأعلن رسميا في هذا الاجتماع عن تبني مشروع الممر البحري.

وعقب الإعلان عنه، أوردت صحيفة جيروزالم بوست الإسرائيلية، نقلا عن مصدر دبلوماسي مقرّب من نتانياهو، في 12 مارس/آذار، أن نتنانياهو كان قد ناقش موضوع إرسال المساعدات إلى قطاع عبر البحر، شريطة التفتيش الإسرائيلي لها في قبرص، بتاريخ 22 أكتوبر/تشرين الثاني، أي بعد اندلاع الحرب بأسبوعين فقط؛ ملمحا أن فكرة المشروع هي فكرة نتانياهو وبايدن منفذ لها.

غير أن تصريحات المسؤول الدبلوماسي قد تكون مجرد دعاية من نتانياهو حتى لا يبدو وكأنه يخضع لمطالب الرئيس بايدن، وهو الذي يرفع شعار "أنه الوحيد الذي يستطيع مقاومة ضغوط الأمريكيين ويقول لهم لا" منذ بداية حرب الإبادة. والملاحظ أن موضوع المساعدات، منذ بداية الحرب، كلما حدث نوع من التسهيل فيه؛ خرج نتانياهو ليبرره ويدعي أنه جاء خدمة لأهداف الحرب. على أية حال، بعيدا عن هذه الجزئية، فإن هذا المشروع لم يكن ليطرح قبل الموافقة والإشراف الإسرائيلي الكامل عليه.

خطة الشاطئ الأزرق

أطلق على مشروع الممر البحري والرصيف العائم "خطة الشاطئ الأزرق"، كاسم كودي داخلي بين الدول والمؤسسات المشاركة فيه. وتبلغ الكلفة الأولية للرصيف البحري المؤقت، نحو 35 مليون دولار تدفعها الولايات المتحدة. وسيبدأ الممر البحري من ميناء لارنكا القبرصي، الذي سيكون نقطة انطلاق للسفن المحملة بالمساعدات الإنسانية إلى القطاع التي سـتأتي من مختلف دول العالم، ومحطة تفتيش أيضا يشرف عليها مسؤولون أمنيون إسرائيليون. أي أن السفن لن تعرّج على أي ميناء إسرائيلي للتفتيش وإنما ستصل مباشرة إلى الرصيف العائم. وستيسر السفن على طول الممر البحري برقابة أمنية وحماية يتولاها جيش الاحتلال والدول المشاركة في المشروع.

وتتكون الخطة من جزئين:

1-  رصيف عائم كبير، بمساحة 6 كم، يتكون من أجزاء معدنية مجمعة، سيستعمل كمنصة لتفريغ حمولة السفن عليها قبل نقلها إلى شواطئ غزة، وذلك لأن مياه شواطئ غزة الضحلة لا تمكن السفن الكبيرة ذات الغاطس العميق من الاقتراب من الشاطئ والرسو فيه.

2-  رصيف عائم آخر صغير مجمع من قطع أصغر، ومرتبط بجسر عائم طوله 548 م، وهو مكون من مسلكين، لمرور الشاحنات عليه ذهابا وإيابا، وسيدفع باتجاه شاطئ غزة ليرتبط فيها.

وستجري عملية نقل المساعدات كالآتي: ستأتي سفن الشحن الضخمة التي لا تستطيع الرسو قبالة شواطئ غزة بسبب ضحالة مياهها، وتصطف بمحاذاة الرصيف العائم وتفرغ حمولتها عليه. ومن على هذا الرصيف ستحمل شحنات المساعدات على متن سفن دعم لوجستية صغيرة وتنقلها إلى الرصيف الثاني الصغير وتفرغ حمولتها عليه، ومن هناك ستحمّل الشحنات على متن شاحنات تسير بها على الجسر البحري وتنقلها إلى داخل غزة. ومن المفترض أن يمشل المشروع أيضا إنشاء مشافي عائمة ، ومساكن مؤقتة للأطقم الطبية والقوات الأمريكية الموجودة على الرصيف العائمة.

وحسب الخطة، فإن 1000 جندي أمريكي ثماني سفن عسكرية لوجستية سيشتركون في إنشاء الرصيف المؤقت، وسيستغرق إنشاء الرصيف 60 يوما، حسب ما أعلن السكرتير الإعلامي للبنتاغون، باتريك رايدر.

 ولكن الرئيس الأمريكي أكد أن أقدام الجنود الأمريكيين لن تطأ شواطئ غزة. وذلك نابع من خشية أمريكية في التورط المباشر في الحرب، ما يعيد إلى الأذهان حوادث سابقة لوجود الجنود الأمريكيين، خاصة حادثتي تفجير السفارة الأمريكية ومقر قوات المارينز في بيروت عام 1982.  

لذلك، قررت الإدارة الأمريكية الاستعانة بشركة Fogbow الأمريكية، التي أسسها ضابطان أمريكيان متقاعدان وتنشط في مجال إيصال المساعدات لمناطق الصراع والكوراث. إذ سيكون دورها في مجال توزيع المساعدات داخل قطاع غزة بعد تحميلها على الشاحنات، ولكن يتوقع أن لا يكون لها دور كبير لأن عملية التوزيع معقدة وتأتي في سياق إيجاد عناصر محلية بديلة عن حماس تتولى عملية التوزيع، ولذلك فعلميتها ستكون منحصرة في تسليم هذه العناصر الشاحنات لتتولى عملية توزيعها. إذ أوضح الكونغرس أن سبب الاستعانة بها مرده التأكيد على إبقاء الجنود الأمريكيين خارج قطاع غزة. وفي المقابل، فإن حماية المساعدات وتأمينه الرصيف العائم ستتولاه قوات الاحتلال الإسرائيلي، مع العلم أنها هي المشكلة الأساسية في موضوع إدخال المساعدات واستهدافها والقائمين على تأمينها وتوزيعها.

مبادرة المطبخ المركزي العالمي

لا بد من التنويه بداية إلى أن الإعلان عن المشروع قد ترافق مع وصول شحنة مساعدات إلى شمال قطاع غزة عبر البحر، أشرفت عليها منظمتان غير حكوميتين، وهما منظمة "الأذرع المفتوحة" open arms  الإسبانية ومنظمة المطبخ المركزي العالمي WCK، وأطلق على هذه العملية اسم كودي"سفينة".

حسب رئيس منظمة المطبخ المركزي العالمي، خوسيه أندريس، فقد اضطر إلى عقد لقاءات مع عدة أطراف لمدة شهرين ليتمكن من تنفيذ هذه المهمة، وشملت اللقاءات قبرص ومصر والأردن والإدارة الأمريكية والإدارة المدنية الإسرائيلية ومسؤولين في السلطة الفلسطينية، والإمارات التي شاركت في تمويل المساعدات. وقد واجهته عدة مشكلات وتعقيدات قبل أن تستطيع منظمته، التي لديها نقاط عمل داخل غزة، ومنظمة الأذرع المفتوحة التي تولت توفير السفينة التي حملت عليها المساعدات، إرسال المساعدات إلى غزة. ومن هذه المشكلات كيفية تفريغ المساعدات في غزة التي لا موانئ عاملة فيها. لهذا السبب، عملتWCK على  بناء رصيف للمراكب الصغيرة باستخدام الأنقاض وبقايا المباني التي قصفت وبعض الرافعات وآلات البناء التي لا تزال تعمل في القطاع، وعملت هذه المعدات الثقيلة بالإضافة إلى تجميع الركام، على جلب المكعبات الإسمنتية الموجودة في رصيف خانيونسا لبحري واستخدامها في هذا الرصيف الجديد. إذ تولت المنظمة التواصل مع الشركة الفلسطينية التي تباشر العمل وتأمين القود للشاحنات والتنسيق مع قوات الاحتلال الإسرائيلي والحصول على التتراخيص والأذون منها.

ومع أن موقع إنشاء هذا الرصيف لم يعلن "لأسباب أمنية"، إلا أن وكالة الأناضول تمكنت من تحديد موقعه، إذ علمت من بعض السكان أن أعمال الإنشاء تجري بالقرب من منطقة البيدر التي تسيطر عليها قوات الاحتلال. تقع هذه المنطقة بين الشيخ عجلين ومحور نتساريم التي تبعد عنه بضعة مئات الأمتار إلى الشمال.

هذا المشروع منفصل كلية عن خطة الرصيف العائم التي تنفذها الإدارة الأمريكية، إذ المشروع الأمريكي عائم في الأساس، سيتصل بشواطئ غزة بجسر عائم وليس برصيف ينطلق من الشاطئ نحو البحر تدفع نحوه المساعدات المحملة على منصة عائمة. غير أن هذا الممر يمكن أن يستخدم كممر إضافي في خطة الرصيف العائم.

على أية حال، كانت مبادرة منظمة المطبخ العالمي تجربة لمشروع الممر البحري من لحظة تجميع المساعدات في قبرص وإبحارها إلى شواطئ غزة وتفريغها هناك. إذ إن كمية المساعدات التي دخلت في هذه العملية، التي تبلغ 200 طن ليست إلا حمولة 10 شاحنات فقط.

ردود الفعل تجاه المشروع الأمريكي

لقد أثار هذا المشروع ردود فعل معارضة له أو مشككة في نواياه وأهدافه، ولم تقتصر هذه الردود على الجانب الفلسطيني، وإنما أيضا شملت الاحتلال الإسرائيلي والداخل الأمريكي أيضا، وكل من وجهة نظر مختلفة منسجمة مع أهداف كل طرف. إذ صدر عن الحكومة الفلسطينية في رام الله موقف رافض لمشروع الممر البحري لما له من مخاطر تستهدف التغيير الديمغرافي في القطاع في ظل حرب التجويع والإبادة.

غير أن الأمر اللافت في الموضوع هو أن فصائل المقاومة الفلسطينية، وتحديدا حركة حماس، لم يصدر عنها أي تعقيب واضح حول المشروع، وقد يكون ذلك مدفوعا بالحاجة والضرورة الملحة التي تستشعرها لإدخال المساعدات إلى غزة بأي طريقة كانت في ظل المجاعة التي يعاني منها أهالي قطاع غزة، لا سيما في شماله.

ومن جانب الاحتلال، ثارت عدة ردود معارضة لهذا المشروع لدواع أمنية وسياسية. فحسب موقع واللا العبري هناك معارضة من بعض المسؤولين العسكريين لإقامة هذا الرصيف لأنه الاحتلال لن يحصل مقابله على تنازلات في موضوع الأسرى، فضلا عن التعقيدات التي على الأرض التي تعيق إمكانية استغلاله لتقويض سلطة حماس.

ومن بين الأمور التي أثارها مسؤولون إسرائيليون صعوبة التفتيش والرقابة على محتوى الشحنات التي ستدخل إلى غزة عبر الرصيف البحري، من ناحية أن الكمية التي تتحدث عنها الولايات المتحدة (مليوني وجبة يوميا) تعني عدد كبير جدا من حاويات من المساعدات. ولا يمكن تفتيش كل هذا العدد في اليوم لا سيما في ظل عدم وضوح الجهة التي ستتولى التفتيش في غزة أو الإجراءات المتبعة في قبرص، ما يعني إمكانية تهريب وسائل قتالية دون علم الأمريكين والإسرائيلي، وهذا على حد زعمهم. ومن ناحية أخرى، هناك تخوفات من أن السيطرة والرقابة الإسرائيلية على هذا الرصيف لن تستمر على المدى الطويل.

إضافة إلة ذلك، ثارت معارضة إسرائيلية كبيرة ضد مسعى الولايات المتحدة لإشراك قطر في تمويل الرصيف البحري وإنشائه، غير أنه، وحسب التقارير، فإن الولايات المتحدة لم تعر أي اهتمام للاعتراض الإسرائيلي وأكدت أن قطر جزء من المشروع، في حين رأى مسؤولون إسرائيليون أن إشراك قطر في المشروع هو حلم قديم لحماس. ومع وجود انتقادات كثيرة فإن التوجه لدى الاحتلال كان عدم إبداء أي معارضة له حتى لا يؤدي إلى زيادة التوتر مع الإدارة الأمريكية، حسب صحيفة معاريف نقلا عن مصادر أمنية

 لكن حتى في الولايات المتحدة الأمريكية أثار مخطط بايدن هذا جدلا وتجاذبا في ضوء الاستقطاب السياسي المحتدم على أعتاب الانتخابات الأمريكية الرئاسية القادمة. فقناة فوكس نيوز، في تقرير لها، ذات التوجهات المحافظة القريبة من الجزب الجمهوري، اعتبرت أن خطة بايدن تأتي ضمن مخطط أوسع للاعتراف بالدولة الفلسطينية بعيدا عن إسرائيل والتأسيس لعلاقة مستقلة مع الفلسطينيين لا تمر عبر إسرائيل أو هيمنتها.

أهداف المشروع

تعددت التحليلات التي تحاول الإجابة على سؤال الهدف غير المعلن من إنشاء هذا المشروع. إذ إن هدفه المعلن، حسب ما صرّح به المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، هو إيصال المساعدات إلى غزة "لأن الخيارات الأخرى ليست كافية"، وفي إشارة إلى الإنزال الجوي. غير أن المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في الغذاء كان قد وصف المشروع الأمريكي بـ"الخبيث"، موضحا أنها "المرة الأولى التي أسمع أحدا يقول إننا بحاجة إلى استخدام رصيف بحري. لم يطلب أحد رصيفا بحريا، لا الشعب الفلسطيني ولا المجتمع الإنساني".

ومع أن هذا المشروع غير مألوف في المنطقة، فإن الجيش الأمريكي كان قد نفّذ مشاريع مماثلة في عدة مناطق في العالم، وكان هدفها هو الإغاثة بشكل أساسي . ومن ذلك أن الجيش الأمريكي أنشأ أرصفة عائمة في فترات سابقة في دول مثل الكويت والصومال وهايتي، وغيرها من دول أمريكا الوسطى لإغاثة ضحايا الكوارث الطبيعية هناك. غير أن ما يجعل الوضع مختلفا بالنسبة للوضع في قطاع غزة، هو أن أمريكا داعمة لاستمرار الحرب سياسيا وعسكريا وماليا وتخطيطا، وأيضا وجود المعابر البرية للقطاع التي تتكدس المساعدات خلفها.  وهذا ما يعني أن للمشروع الأمريكي أسبابا أهدافا أبعد من الإغاثة، سواء فيما يتعلق بمستقبل الحرب أو بالمصالح الأمريكية وصورتها في العالم، وكذلك المصالح الانتخابية للرئيس بايدن الذي يواجه منافسة شرسة من الرئيس السابق دونالد ترامب، وقد ساهم موقفه في الحرب في جعل تقليل شعبيته وازدياد حدة المنافسة.

غير أن التحليلات العربية/الفلسطينية مالت بشكل عام بعيدا عن الأهداف المحتملة إلى افتراض أهداف أخرى تتعلق بقضايا مختلفة في المنطقة، سواء أكان موضوع التهجير، أو غاز غزة، أم مشروع قناة بن غوروين، أم الممر الهندي، أم احتمالية اندلاع حرب مع لبنان. ويعود ذلك إلى غرابة موضوع الرصيف العائم وكونه غير مؤلوفا في المنطقة.

ولكن هذه التحليلات لا تصمد أمام معطيات الواقع، ففي موضوع حقل الغاز الفلسطيني الموجود قبالة شواطئء غزة، المعروف باسم حقل مارين، على سبيل المثال،  الذي ثارت شكوك من أن الرصيف سيكون قاعدة لسرقة  الغاز في ظل سعي أوروبا لتنويع مصادرها من الغاز بعد الحرب الأوكرانية.

غير أن هذه الشكوك وما رافقها من تحليلات لا تعدو كونها تكهنات تفتقد إلى أي دليل عملي، فضلا عن كونها لا تنطلق من الحقائق المتعلقة بموضوع غاز غزة. إذ تقدر احتياطات حقل مارين والحقل الحدودي، الأقل سعة، بـ تريليون قدم مكعب من الغاز، وهناك تقديرات بأن الاحتياطات تبلغ تريليون و400 مليار قدم مكعب (وحدة القياس المستخدمة القدم وليس المتر، كل متر معكب يساوي قرابة 35.3 قدم مكعب). قد تبدو هذه الكمية كبيرة للوهلة الأولى، ولكنها بالمقارنة مع أرقام أخرى تتعلق بالغاز وحقوله الموجودة في العالم تغدو ضئيلة جدا.

فعلى سبيل المثال، لدى قطر احتياطات من الغاز الطبيعي تقدر بقرابة 842 تريليون قدم مكعب، ولدى إيران 1200 تريليون قدم مكعب، ولدى روسيا قرابة 1688 تريليون قدم مكعب. وحتى منطقة شرق المتوسط بدولها المختلفة، فاحتياطاتها المؤكدة من الغاز الطبيعي تبلغ قرابة 286 تريليون قدم مكعب، تمتلك  مصر ، مثلا، حصة منها تفوق 70 تريليون قدم مكعب. وإذا قارنا احتياطات حقل مارين بحقول أخرى، لا سيما في المنطقة، سنجد أن حقل مارين من أصغر الحقول، فعلى سبيل المثال تبلغ احتياطات حقل ظُهر المصري 30 تريليون قدم مكعب، وحقل ليفاتان "الإسرائيلي" 35 تريليون قدم مكعب.

 وإذا أخذنا في الحسبان أن احتياطات العالم من الغاز الطبيعي تقدر بحوالي 7506 تريليون قدم مكعب، فهذا يعني أن احتياطات غاز غزة لا تشكل إلا نسبة ضئيلة جدا من كمية الاحتياط العالمي. وبالنظر إلى حجم الإنتاج العالمي السنوي من الغاز الطبيعي، الذي بلغ عام 2022، على سبيل المثال، قرابة 130 تريليون قدم مكعب، فهذا يعني أن مساهمة حقل مارين في الإنتاج العالمي ستكون مساهمة هامشية جدا أيضا، ولو افترضنا أن الهدف من استغلاله هو مساعدة الاقتصاد الأوروبي على التخلص من هيمنة الغاز الروسي، فإن غاز غزة لن يكون مسعفا لأوروبا، فقد كان حجم استهلاك أوروبا من الغاز قبل الحرب الروسية الأوركرانية قرابة 17.6 تريليون قدم مكعب سنويا.

مختصر هذا النقاش هو أن مسألة غاز غزة لا يمكن أن يكون عاملا حاسما في ما يتعلق بإنشاء الرصيف الأمريكي العائم، وحتى من الناحية اللوجستية لا يمكن الاستفادة من الرصيف العائم في استغلال الغاز. غير أن ما قدمناه من معطيات لا ينفي حقيقة أن غاز غزة سيكون مفيدا جدا للاقتصاد الفلسطيني لكونه اقتصادا صغيرا، إذ من المحتمل أن يؤمن احتياجات قطاع غزة والضفة الغربية من الغاز ويرفد الخزينة الفلسطينية بعائدات تبلغ قرابة 20 مليار دولار. ليس المقام هنا لتنفيد كل افتراض على حدة، ولكن المقصود هو إيضاح أن ليس كل المشاريع الأخرى يمكن إلصاقها بخطة الرصيف العائم المؤقت.

على أية حال، تظل للمشروع أهداف تتعلق بمسار الحرب ومستقبلها، إذ إن هناك توافقا أمريكيا إسرائيليا على أهداف الحرب واستمراراها حتى تحقيق أهدافها، وأهم هدف لها هو القضاء على حركة حماس وتقويض حكمها في قطاع غزة، وتعمل على إيجاد خطط لما يسمى "اليوم التالي" تستثني حماس من أي دور، وتزيد انخراط الدول العربية، دول التطبيع تحديدا، في مستقبل قطاع غزة. وبالإشارة إلى أن بايدن أعلن أن هذا الرصيف هو رصيف مؤقت، فإن تكلفته ومسألة إنشائه التي ستستغرق شهرين تثير تساؤلا كبيرا حول أمد الحرب الذي تتوقعه الولايات المتحدة ومدى مساهمته هذا الرصيف في إطالة أمدها قدر الإمكان.

 وكعادتها استخدمت دولة الاحتلال تجويع الناس في قطاع غزة سلاحا في وجه المقاومة لتحقيق أهدافها، إذ صرّح وزير حرب الاحتلال يؤاف غلانت من على شواطئ غزة، في إشارة إلى الرصيف العائم: " العملية مصممة لتقديم المساعدات مباشرة إلى السكان وبالتالي مواصلة انهيار حكم حماس في غزة". إذ تحوّل سلاح التجويع أحد أهم الوسائل التي يستخدمها جيش الاحتلال في تنفيذ مخططاته في قطاع غزة، وأصبح موضوع إدخال المساعدات وتوزيعها والجهة المسؤولة عنها محور الرؤية الإسرائيلية فيمن سيتولى إدارة قطاع غزة بعد الحرب.

على أية حال، لا يخفي الإسرائيليون أن أهدافهم من هذا المشروع هو تصفية حكم حماس، فحسب مصدر سياسي لصحيفة يسرائيل هيوم الإسرائيلية، سيكون لهذا الرصيف عدة أهداف يتوخى الاحتلال تحقيقها:

1-  استبدال الأونورا بمنظمة أممية أخرى.

2-  إخراج موضوع توزيع المساعدات من يد حماس، ما يعنيه ذلك تقويض سلطتها في القطاع.

3-  تقليل الضغط الدولي على إسرائيل التي ينظر لها على أنها تسبب مجاعة في القطاع.

4-  إظهار مدى تعقيد إدخال المساعدات للأمريكيين لكونهم هم المسؤولون عن هذا المشروع، بمعنى تريد إسرائيل أن تثبت للأمريكيين أنها ليست هي المتسببة بالمجاعة.

5-  تخليص إسرائيل من العبء الذي يلقى عليها بصفتها مسؤولة عن إدخال الغذاء إلى قطاع غزة.

في المحصلة، يخلص المصدر إلى أن هذه المشروع ضروري لاستمرار الدعم الدولي للعملية العسكرية في قطاع غزة. ما يعنيه ذلك، هو أن الاحتلال يسعى إلى تهيئة الظروف لاستمرار حرب الإبادة في قطاع غزة، وإيجاد بنية إدارية تضمن إدامة الاحتلال للقطاع ولكن بشرط أن يكون هذا الاحتلال رخيصا مريحا لا تتحمل فيه دولة الاحتلال أية أعباء مالية أو خدماتية تجاه السكان، وتحميلها لدول العالم المختلفة بدلا عنها. وما يعزز هذا الافتراض هو أن هناك تحليلات ترى بأن إسرائيل تتنظر إلى الرصيف البحري كرهان يمكن أن تستفيد منه على المدى الاستراتيجي في التخلص من العبء الغزي، والانفصال كلية عن القطاع فيما يتعلق بالحركة التجارية والمعابر والتخلص من الانتقادات الدولية التي تقول أن إسرائيل تفرض "حصارا" أو خنقا" على غزة وأنها "أكبر سجن مفتوح في العالم".

ومن الجانب الأمريكي الأوروبي، فإن هذا المشروع من النوع الاستعراضي، مثله مثل الإنزال الجوي للمساعدات، في ظل وجود المعابر البرية التي يمنع الاحتلال فتحها لإدخال المساعدات. ولكن في ظل الانحياز الأمريكي الأوروبي الكامل لإسرائيل في إبادتها الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وتصاعد الاحتجاجات والانتقادات لهذا الانحياز، لا سيما وأنها تؤثر على الأوضاع السياسية الداخلية لدى هذه الدول والمصالح الغربية بشكل عام مع انهيار دعايات حقوق الإنسان التي تتشدق بها تلك الدول، فإن الدول الغربية تجد نفسها مضطرة إلى محاولة إظهار بعض التوزان في سلوكها وخطابها. وهذا الأمر أكثر جدية بالنسبة للرئيس الأمريكي بايدن في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، التي يسعى لاسترضاء الجالية العربية والمسلمة وقواعد الحزب الديمقراطي المعارضة لدعمه لحرب الإبادة، وفي نفس الوقت عدم إغضاب اللوبي الصهيوني، بتسخير الرصيف البحري بما يخدم الأهداف الإسرائيلية وخطط "اليوم التالي" للحرب، وهو ما يتجلى في الحرص الأمريكي على إشراك الإمارات في المشروع حتى يكون لها دور في مستقبل غزة.

ختاما

لا يمكن التعامل مع أي مشروع تطرحه الإدارة الأمريكية إلا بنوع من الشك والريبة، لأن الولايات المتحدة عبر تاريخها هي الداعم الأساسي للاحتلال ولم تقدم أية مشاريع تتعلق بالقضية الفلسطينية إلا وكانت تصب في مصلحة الاحتلال وتساهم في تحقيق أهدافه على المدى البعيد وشراء الوقت لتمكينه من تحقيق تلك الأهداف. وقد تجلى هذا الأمر بوضوح خلال حرب الإبادة الحالية، التي لم تتورع خلالها الإدارة الأمريكية عن مشاركة الاحتلال في أكاذيبه وافتراءاته فضلا عن تقديم أشكال الدعم العسكري والمادي والسياسي كافة له. ولا يوجد في هذا المشروع ما يوحي بأن هناك تغيرا في سلوك الإدارة الأمريكية، أو أنه شاذّ عن قاعدة الدعم الأمريكي المطلق للاحتلال.

إن هذا المشروع هو من النوع الذي يستهدف استغلال ظروف الحرب والمجاعة التي أنتجها الاحتلال في خدمة تحقيق أهداف العدوان، في الوقت الذي يموت الناس فيه من الجوع ما مضطرين لاستقبال المساعدات أيا كان مصدرها أو طريقة إيصالها أو الجهة المسؤولة عنها.

 

تم طباعة هذا المقال من موقع يبوس للإستشارات والدراسات الاستراتيجية (yabous.info)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)