البوابات الإلكترونية.. عام على انتصار "الوعي الشعبي"
تاريخ النشر: 22/07/2018 - عدد القراءات: 3504
البوابات الإلكترونية.. عام على انتصار "الوعي الشعبي"
الباحث سليمان بشارات


بقلم: سليمان بشارات*

 كانت عبارة عن تجربة جديدة، استطاعت بمكوناتها البسيطة أن تعيد رسم ملامح وعي جديد، لم يكن يحدث لو لم تنصهر الإرادة الشعبية لتشكل حالة وعي جديد حاولت إسرائيل منذ احتلالها في العام 1967 أن تجبرها على الهجرة كحال مئات الفلسطينيين خارج بلادهم.

اليوم، ونحن نستذكر مرور عام على معركة البوابات الإلكترونية على أبواب الأقصى، التي حاول من خلالها نتنياهو أن يفرض واقعه الجديد تماشيا مع الرؤية الإسرائيلية التي تستمد قوتها من البعد العقائدي، فإنه لا بد أن نتوقف عند مجموعة من المحطات، لعل استرجاع الذكرى يفيد في تدارك مستقبل تحاصره الكثير من المخاوف.
 
الدوافع إسرائيليا
لخصت إسرائيل دافعها العلني بالإقدام على هذه الخطوة بأنه رد على قيام ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم داخل الخط الأخضر يوم 14 يوليو/تموز 2017 بتنفيذ عملية إطلاق نار داخل المسجد الأقصى أسفرت عن استشهادهم ومقتل عنصرين من أفراد الشرطة الإسرائيلية وجرح آخر.

فكانت هذه العملية الفدائية بمثابة المبرر المباشر لفرض واقع حلم به اليمين الإسرائيلي كونه القائد لدفة السياسات الإسرائيلية في الوقت الحالي، بحيث تتكامل أدوات الواقع التي تفرض، في إحداث تغير دراماتيكي وسريع وصولا إلى الهدف الأبعد وهو سيطرة إسرائيلية دينية وسياسية وأمنية على المسجد الأقصى، تشبه إلى حد بعيد ما فرض على المسجد الإبراهيمي في الخليل عقب المجزرة التي وقعت في العام 1994، وبالتالي تختصر عليها الكثير من الخطوات التي ما زالت تصطدم بصخرة من الصمود من أهالي القدس المحتلة.

لكن، لو كان هذا الهدف الأساس من هذه الخطوة الإسرائيلية، فلماذا تبحث لها عن طريقة إخراج هوليودية، وكان بالإمكان أن تذهب لفرض البوابات في ظرف ووقت مختلف؟ هذا السؤال يعيدنا إلى البحث في رؤية أكثر بعدا لما كانت تطمح بتحقيقه إسرائيل والمتمثل في:

أولا: تقديم صورة الضحية إذ تحاول إسرائيل بل تسعى بقوة إلى تعزيز هذه الصورة، والضحية صورة نمطية مهمة في خطاب إسرائيل الإعلامي والسياسي على المستوى العالمي والإقليمي، لما لذلك من انعكاس واضح في استجلاب الدعم والتأييد، إضافة إلى تعزيز حالة استقدام العنصر البشري الذي يمكن له أن يعزز الوجود الإسرائيلي عبر الاستيطان.

فكلما نجحت إسرائيل في إحداث قفزات في حالة التضامن والاستعطاف حققت خطواتها نجاحا في تعزيز برنامج الوكالة اليهودية العالمية لتجنيد مستوطنين يقبلون السفر إلى "أرض الميعاد" انطلاقا من ربط ذلك بالبعد الديني العقائدي بالدرجة الأولى.

ثانيا: تغييب الأثر الفعلي للمرابطين من فلسطينيي الـ48، وأهالي مدينة القدس المحتلة، في مواجهة مخططات احتلال المسجد الأقصى؛ إذ إن بقاء قوة الفعل المباشر لهذه الشريحة أمام الاقتحامات اليومية للمستوطنين للأقصى والتصديَ لأي محاولات تغيير واقع ومعالم المسجد يعني فشلا إسرائيليا في الوصول إلى الهدف البعيد في تعزيز الدور الديني والأمني عليه.

وبالتالي فإن استغلال هذا الحدث من شأنه أن يوفر فرصة قد لا تتحقق مستقبلا لتحقيق حالة إبعاد جماعي للمرابطين على بوابات الأقصى أو المرابطين فيه، فعلى مدار السنوات الماضية ورغم تكثيف إسرائيل من قرارات الإبعاد للشخصيات ذات الأثر المباشر بتحقيق حالة الرباط بالأقصى، فإنها لم تستطع التأثير على الشريحة العامة الأكثر وصولا ووجودا أمام ساحات الأقصى يوميا.

ثالثا: إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني الشاب وارتباطه بالأقصى؛ إذ أن جرأة العملية الفدائية التي أقدم عليها الشبان الثلاثة لا تريد الأذرع الأمنية الإسرائيلية أن تتكرر بأي شكل مستقبلا، ما يستدعي خطوة مقابلة تضخم من حالة الحدث تأثيرا على الوعي في المواجهة، وإحداث نوع من اللوم الفلسطيني الداخلي لها لعدم جدواها وفقا لموازين القياس المادية.

هذا الهدف حاولت إسرائيل منذ احتلالها لفلسطين أن تغرسه، ورغم أنها لم تنجح في ذلك في مرات عدة، فإنها ربما حققت نوعا من إعادة الحساب لدى العديد من الأهالي والعائلات، وكانت تستخدم في كل مرة أداة جديدة، فمن هدم بيوت منفذي العمليات، إلى اعتقال أفراد العائلة، أو سحب تصاريح العمل، أو المنع من السفر، والكثير الكثير من الخطوات التي حاولت أن تراهن عليها إسرائيل عبر محطات النضال الفلسطيني المختلفة.
 
الصمود فلسطينيا
حاولت إسرائيل البحث عن حصاد سريع لخطواتها مستغلة ظروفا عدة؛ فعلى الصعيد الفلسطيني الداخلي ما زالت حالة الانقسام السياسي متجذرة وانعكست بوضوح على مفاهيم المقاومة، بل غابت ملامح البرنامج الوطني الموحد، وغابت معه رؤية التعامل مع الواقع والمستقبل أمام ما تقوم به إسرائيل على الأرض، وبالتالي هي فرصة قد لا تتكرر في تنفيذ مخطط فرض الواقع على مدينة القدس والمسجد الأقصى.

أما على الصعيد العربي والإقليمي، فالحال لم يكن بأحسن من الواقع الفلسطيني؛ من استقطاب وخلافات داخلية، ومعارك بالوكالة أثكلت المستويات الشعبية والجماهيرية وأزاحت قضية القدس وفلسطين من موضع الأولوية على قائمة الاهتمام كما كانت في السابق، بينما التزمت الكثير من الدول الصمت حيال هذه الخطوة، بل إن وزير الأمن الداخلي "جلعاد أردان" قال في مقابلة مع "إذاعة الجيش" الإسرائيلي يوم (18-7-2017)، إن نصب البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى كان بالتنسيق مع عدد من الدول العربية، من دون أن يذكر أسماءها.

لكن ما لم يكن في حسابات إسرائيل هو أن إعادة الوعي الشعبي الفلسطيني ذاتيا هذه المرة لم يكن بحاجة لحالة إلهام قائد سياسي كما في الثورات والانتفاضات، بل لعل الجين العقائدي الديني والارتباط بالمسجد الأقصى ورمزيته وعدم الإيمان المطلق بقدرة الأدوات السياسية على المواجهة في هذا الوقت جعلا حالة الاستنهاض الذاتي تعيد ترتيب الجمهور سريعا، بما دفع باتجاه تحريك الهيئات والمرجعيات فيما بعده، ومن ثم إجبار المفاعيل السياسية على التحرك نزولا عند رغبته.

فما العوامل الكامنة وراء حالة الاستنهاض الشعبي في المواجهة؟ سؤال يمكن الإجابة عليه من خلال نقاط عدة؛ أولها، ضعف الفعل السياسي الفلسطيني على الأرض، خاصة فيما يتعلق بمدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى.

فمنذ توقيع اتفاقية أوسلو، التي حولت الملف المقدسي إلى قضايا الحل النهائي لم يستطع السياسي الفلسطيني خاصة والراعون العرب لعملية السلام الوقوف أمام أي مخطط إسرائيلي ينفذ بالمدينة على حساب الوجود الفلسطيني، لم يستطيعا إقناع المقدسي بجدوى تعزيز حالة الصمود عبر العديد من البرامج التي لم تخرج عن كونها إغاثية بالدرجة الأولى.

كان هذا كافيا في البحث عن المواجهة الذاتية للمقدسي، سواء بشكل فردي من خلال عمليات الدعس أو الطعن التي قام بها مقدسيون في مواقع عدة، أو حالة جماعية شعبية تبلورت ملامحها لمواجهة البوابات الإلكترونية على مداخل الأقصى.

العامل الثاني، حالة من الغياب الذاتي للقيادات الفلسطينية، ويوازيها عمل إسرائيلي مبرمج للتغييب؛ ففي الحالة الأولى غابت القيادات السياسية والميدانية عن الهم المقدسي، وبات يرتبط الأمر بزيارة بروتوكولية أو لالتقاط صور تذكارية في باحات الأقصى، وهي خطوات لم يصمت عنها المقدسيون أنفسهم الذين هاجموا العديد من مواكب قيادات سياسية وغير سياسية فلسطينية أثناء زيارتهم للمسجد الأقصى أثناء حالة الاعتصام أمام بوابات الأقصى، أو حتى قبلها أو بعدها.

وفي الحالة الثانية، عمدت إسرائيل إلى عمل مبرمج لسلخ القيادة الملهمة عن الجمهور المقدسي وإحداث حالة صمت أمام ما تقوم به من ممارسات يومية؛ فكان اعتقال متكرر للشيخ رائد صلاح، وقرارات إبعاده عن الأقصى ومدينة القدس المحتلة وكذلك الشيخ كمال الخطيب وحاتم عبد القادر، حتى الشخصيات التي لم تصل لمرحلة القيادة ولكن كان لها أثر مباشر، أمثال المرابطة هنادي الحلواني وغيرها.

حالة الغياب هذه جعلت من الحالة الشعبية المقدسية إعادة برمجة لذاتها لتولي المواجهة، والتي جاءت خطوة نصب البوابات الإلكترونية توقيتا للإعلان عنها، وكأن المقدسيين كانوا ينتظروا هذا الحدث أو أي حدث مشابه لتقديم أنفسهم أنهم هم حراس المسجد الأقصى ومدينتهم التي باتت تقاوم وحدها مخططات التهويد والاستيطان.

العامل الثالث، يتلخص في تجربة المسجد الإبراهيمي، الذي استطاعت إسرائيل أن تجعل منه مكانا مستباحا بشكل يومي للجماعات الاستيطانية، ولم تكتف فقط بالتقسيم الزماني والمكاني، بل أصبحت تتدخل مباشرة بمواعيد رفع الأذان، ومنع الدخول أو الصلاة فيه. وكأن ما حدث للمسجد الإبراهيمي كان ملهما لمنع تكرار المشهد فيما يتعلق بالمسجد الأقصى.
 
الاستفادة مستقبلا
لا شك أن نموذج الانتصار الشعبي أمام احتلال إسرائيلي معزز بواقع سياسي دولي داعم، وواقع عربي وإسلامي صامت، وواقع فلسطيني منقسم على ذاته، يجعل من الأهمية إعادة قراءته بشكل أكثر بعدا عن الحالة نفسها، لأن مفاعيل الحدث لا تزال قائمة في القدس وعلى أبواب الأقصى، وفي كل فلسطين.

فما سجلته حالة الصمود، والإرادة، ومن ثم القدرة على تحقيق الهدف من الاعتصام، من شأنه أن يؤسس لحالة متنامية من الفعل الفلسطيني الذي يمكن أن يتناغم مع واقع غير متوافق مع إمكانياته المادية في المقاومة، أو إمكانياته السياسية أمام حالة الاحتضان الدولي الأميركي للمشروع الإسرائيلي، وحالة تغلغله في المنطقة.

وبالتالي فإن تعزيز تحويله إلى نموذج من شأنه أن يحقق عددا من الأهداف المستقبلية؛ أولها: مواجهة حالة تراجع الوعي المعرفي في مقاومة الاحتلال بشتى الوسائل والأدوات، وعدم الاقتصار على شكل واحد، أو التسليم بأن مقاومة المشروع الإسرائيلي لا يمكن مواجهته في الوقت الحالي، وهو ما يعيد الاعتبار للحالة الشعبية التي عرفها الفلسطيني منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، مرورا بالانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة)، والانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، والانتصار على البوابات الإلكترونية، وصولا إلى مسيرات العودة على حدود قطاع غزة، والصمود الشعبي في الخان الأحمر شرقي مدينة القدس المحتلة.

ثانيها، إعادة صياغة لشكل العلاقة الفلسطينية الداخلية، سياسيا وتنظيما، وتقليص حالة الفجوة ما بين المستوى القيادي والشعبي، فالاستمرار بحالة البعد من شأنها أن تدفع باتجاه البحث عن الخيارات الشعبية التي يمكن أن تعزز غياب القيادة السياسية والشعبية، وهو ما ارتسمت ملامحه خلال معركة البوابات الإلكترونية، ومن الممكن أن تمتد لتلامس الكثير من الجزئيات الفلسطينية في مراحل المواجهة المقبلة.

فكيف يمكن للفلسطينيين إحداث انعكاس لهذه التجربة على الذات السياسي فلسطينيا؟ وكيف يمكن أن تشكل حالة تأسيس لمرحلة مقبلة؟ تبقى هذه الأسئلة بانتظار إجابات القائمين على رسم السياسيات الفلسطينية ليجيبوا عليها قبل أن تتسع الفجوة وتتقدم الحالة الشعبية الجماهيرية على الحالة السياسية الرسمية.
 
* قراءة تحليلية نشرت للباحث على صفحة الجزيرة نت بتاريخ 16-7-2018

أضف تعليق
تعليقات الزوار
لا يوجد تعليقات حالياً، ما رأيك أن تفتتح التعليقات؟
تقارير
آخر الأخبار
الباحث كريم قرط يمثل "يبوس" في مؤتمر فلسطين ومستقبل الشؤون الدولية باسطنبول
الباحث كريم قرط يمثل "يبوس" في مؤتمر فلسطين ومستقبل الشؤون الدولية باسطنبول
الباحث قرط يمثل يبوس في مؤتمر فلسطين الثاني بالدوحة
الباحث قرط يمثل يبوس في مؤتمر فلسطين الثاني بالدوحة
المقالات
خطة الشاطئ الأزرق: الرصيف العائم الأمريكي في خدمة أهداف الحرب الإسرائيلية
خطة الشاطئ الأزرق: الرصيف العائم الأمريكي في خدمة أهداف الحرب الإسرائيلية
بين استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق والرد الإيراني: إلى أي تتجه الأمور
بين استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق والرد الإيراني: إلى أي تتجه الأمور
هجرة طوعية" من غزة.. واقعية الطرح وإمكانيات التنفيذ
هجرة طوعية" من غزة.. واقعية الطرح وإمكانيات التنفيذ