بقلم: د. إياد أبو زنيط
في هذه الورقة رؤية مغايرة في النظرة لقانون القومية الإسرائيلي، فبينما رأى عديدُ الباحثين والمفكرين والمختصين بالشأن السياسي خطراً على الفلسطينيين وتحولاً لإسرائيل نحو دولة أبارتهايد -وهذا حقيقي- لا تخرجُ فيه الدولة الوظيفية عن طورها منذ اللحظة التي أُقيمت فيها، ولا تخالف فكرة تكوينها، وإنما تُمارس دورها كاحتلال، وتوجهها نحو سلوك ديمقراطي يُخالف منطق تكون الدول الاحتلالية عبر التجارب التاريخية.
صادق الكنيست الإسرائيلي على قانون القومية الجديد بالقراءة الثالثة والأخيرة منتصف الشهر السابع من العام الحالي باعتباره قانون أساس (كقاونين الدساتير) لا يُمكن تغييره إلاَّ بقانون أساس آخر، وعبر ممر تشريعي معقد يتمثل في الكنيست، واعتبر "لحظة فارقة في تاريخ الصهيونية وتاريخ دولة إسرائيل"، حسب ما رأى فيه نتنياهو.[1] وهو كذلك لحظة فارقة في مسيرة الدولة نحو نهايتها، وسلوكها الطبيعي الذي تبنته قبلها مئات الدول التي خاضت تجربتها في احتلال الشعوب.
استباق لتلافي خطر..
لَقد أدركَ المُستوطنونَ الصَهاينَةُ أنَّ ثَمَةَ قانونَاً يَسري على كافةِ الجُيوبِ الاستيطانيَةِ تاريخِياً وفِعليَّاً_ كما يرَى الدكتور عَبدْ الوَهابِ المَسيري-، يتمثلُ في أنَّ الجُيوبَ التي أَبادَت السُكانَ الأَصليين (مثل أمريكا الشمالية واستراليا) كُتبَ لها البَقاء، أمَّا تِلكَ التي أخفَقت في إبادِة السُكانِ الأَصليينَ فَمصيرَها إلى زَوالٍ. ويُدرك المُستَوطِنونَ الصَهاينَةُ جَيداً أنَّ جَيبهُم الاِستيطَاني يَنتمي لِهذا النَمطِ الثاني وأنَّه لا يُشكَّلُ أيَّ استثناءٍ لهَذا القانَون. إنَّ إسرائيلَ تُدركُ أنَّها تعيشُ في نِفسِ الأرضِ التي أُقيمت فيها مَمالِكُ الفِرنجَة وتُحيطُ بهم خرائِبُ قِلاعِهِمْ التي تُذَّكِرهُم بِهذهِ التَجرِبَة الاستيِطانيةِ التي أخَفقَت وزالت.[2] فالمَشروعُ الصهيونيّ مُتشابهٌ تَماماً مَعَ الاستِعمارِ الفِرنجِيّ، بلْ هُو نَفسُهُ مَعَ حُلولِ اليَهودِ مَحِلَ المادَةِ البَشرَّية التي كانَتْ في الآخَرِ الفِرنجِي.
يأتي قانونُ القوميةِ في أحدِ نُصوصه ليُحاولَ واضعوه تلافيِ خطرٍ تمثلَّ في بقاءِ المُكونِّ الأصلي للأرض ثابتاً في مكانهِ عصياً على التغير أو الذوبانِ في داخل الدولة المسخ، فالفلسطينيون الذين تبقى منهم بعد نشوء إسرائيل ما يقرب من 120 ألفاً تجاوزَ عددهم اليومَ مليوناً وسبعمائة ألفاً، وأصبحوا فعلاً ذا تأثير واضح داخل الدولة، تُحاول إسرائيل من خلال قانونها أن تمنع التأثير أو تستبق حدوثه، فينص قانونها الجديد على أنَّ:"حق تقرير المصير في الدولة هي للشعب اليهودي وحده"،[3] في استثناء واضح لفلسطيني الداخل المحتل، وفي مسعىً واضحٍ في دفعهم نحو الهجرة، إسرائيل منذ وجودها كانت اقتلاعية، لكنَّها فشلت في خلع الفلسطيني رغم ما أحاطت نفسها به من قوانين وممارسات، فقد ساوى عدد الفلسطينيين على حدودها التاريخية عدد الإسرائيليين الذين نما عددهم طبيعياً وبالهجرة، بينما نما الآخر فقط طبيعياً، وهنا لا يعدو هذا القانون كونه محاولة لاستمرار الاقتلاع لا أكثر.
إختلافٌ على تعريف اليهودي مرةً أخرى...
ينص القانون الجديد على أنَّ:"دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي"، وهنا يبرز التساؤل الذي ثار منذ بدء العلاقة ما بين الصهيونية كحركة استعماريةٍ وظيفية وبين اليهود المتدينين، حول من هو اليهودي، وكيف بالإمكان تحديد طريقة التهويد؟ إن القانون يتغاضى عن التنوع المذهبي للجماعات اليهودية حول العالم، ولا يحسم التناقض بين النفوذ المتصاعد لليهودية الأرثوذكسية في الداخل وغضب التيارات الأخرى من هذا النفوذ في الداخل والخارج.[4] فقانونُ العودة -مثلاً- ما زالَ يفتقرُ إلى تعريف "مَن هو اليهوديِّ؟". وسؤال مَن هو اليهوديّ سؤالٌ ديني في نهاية الأمر، والعوائقُ أمام حسمهِ عوائقُ دينية. فليس هنالك خلافٌ في شأن كون اليهودي هو المولود لأمٍ يهودية، ولكن هنالك فارقٌ بين المتدينين الأرثوذكس[5] وبين الاتجاهين المحافظ والإصلاحي .[6]والسؤال سؤالٌ ديني، مع أنَّ الإجابةَ عنه قد تعني منحَ المواطَنة لليهودي القادم الجديد، أو عدمَ منحهِ إياها.لقد أخفقَ قادةُ الحركة الصهيونيةِ وقادة إسرائيل في بلورةِ تعريفٍ لليهودي[7] وضمن نص القانون الجديد سيتسمر هذا الخلاف بل سيتنامي مستقبلاً في ظل العجز حول الاتفاق على تعريف اليهودي.
تنامٍ للشرخ الديني العلماني..
في ظل محاولة القانون تعريف إسرائيل على أنَّها دولة يهودية تبرز مسألة أخرى، تتمثل ُفي عدم تتطابقُ الأمة مع المواطَنة، فَليسَ كل مواطنٍ إسرائيلي جزءاً من "الأمة الإسرائيلية"، التي لا تعترفُ المؤسسةُ الرسمية أصلاً بوجودها. إن أكثرية السكانِ في إسرائيل سكانٌ يهود، ينتمونَ إلى أمةٍ عالميةٍ هي الأمةُ اليهودية. والنقاشُ الجاري في إسرائيل حالياً هو فقط بشأن ما إذا كانت إسرائيل دولة اليهود أم تعدو ذلك لتكونَ دولةً يهودية، أي دولة ذات طابعٍ دينيٍ يهودي.[8] وإذا كانت الدولة قد أخذت بالميل نحو التوجه الديني هنا يتم التساؤل بين صفوف علمانييها عن دورهم في التأثير فيها، وإمكانية البقاء على أرضها في ظل سيطرة متدينيها الذين يروا في العلمانيين وباءً على الدولة، ويسعون دائماً إلى سن قوانينَ تمنعهم من ممارسة حريتهم.
زيادةٌ للبون ما بين الديمقراطية والقومية..
إنَّ الازدواجية التي خلقتها الصهيونية السياسية بين الدين والقومية شـكلت ولا زالـت عقبةً في تعريف "دولة إسرائيل"، وبمعزلٍ عن الخليط الإثني الذي يسكنها، فالأيدلوجيـة الرسمية للدولة لا زالت موضوعَ بحثٍ وتطلعاتٍ مـستقبلية. وذلـك نتـاج المنطلـق العلماني للصهيونية السياسية التي تجاذبت أفكارها بـين القوميـة المزعومـة وبـين الديانـة اليهودية، وعلى الرغم أنَّ الأغلبية السكانية في إسرائيل هم من اليهود إلا أنَّ إسـرائيل لا تُعـرف كدولة يهودية. أو لازال مصطلح يهودية "دولة إسرائيل" مطروحاً علـى بـساط البحـث كأحـدِ الأهداف السياسية لبعض الأحزاب الإسرائيلية. ولا زال محل جدل بـين أوسـاط المفكـرين والمؤرخين اليهود أنفسهم، عدا أنَّ الشعار نفسه "يهودية الدولة"يتضمن عنصرية واضحةً تجاه الأقليات الأخرى كلها التي تقم في إسرائيل، وهذا ما ترفضه أيضاً كثير من الأوساط العلمانية اليهودية في إسرائيل باعتباره مهدداً للديمقراطيـة.
إنَّ الادعاءَ بيهودية إسرائيل يُخالفه واقع المجتمع الإسرائيلي، وما هو إلا استمرار لما قامت به الصهيونية السياسية منَ استدعاءِ للدين في خطاباتها وأهدافِها الـسياسية، فالمـشروعُ الصهيوني السياسي وعلى الرغم أنَّه نجحَ بتحقيقِ هدفهِ بإنشاء "دولة إسرائيل"، إلا أنَّـه لا زال يستدعي العامل الديني للحفاظ على هوية مجتمعه، يقول المسيري : "إنَّ الدولة الصهيونية تزعُم أنَّها دولة يهودية، لأنَّ هذا الزعم يشكل التبرير الوحيد لوجود المستوطنين والمهاجرين اليهـود في فلسطين، ويُسبغ نوعاً من الشرعية على الدولة الصهيونية، ويعطيها الحق فـي أنْ تظـلَ تُطالب بحق العودة لليهود الذين تركوا وطنهم القومي فقط منذ آلاف السنين".[9] وهذا القانون هو تكريسٌ للفكرة السابقة، رغم ما يحملهُ في داخله من خطر على الدولة بشكل كبير.
تعاظمٌ للإكراه الديني وفشلٌ لبوتقة الصهر...
في ظل منح القانون الجديد أولويةً لتكريس التدين الفج، من خلال تكريس يهودية الدولة، فإن هذا يزيد من تعاظم التيار الديني وفشل بوتقة الصهر، فقد حاولت الحركات الدينية بكل قوتها التأثير على حياة العلمانيين وتطبيعها وفقَ ما يتلاءم مع رؤيتهم للدولة والمجتمع، حيث لم يتردد المتدينون في استخدامِ كلِّ الأدوات المتاحة لهم لتحقيق ذلك التأثير وهو ما اعتبره العلمانيون أحدَ مظاهر الإكراه الديني.[10] فبعد وصول التيارات الدينية للحكم حاولت سن مجموعةٍ من القوانين تُكرس الطابع الديني للدولة، بما يتعارض مع قناعات العلمانيين، فقدمت مشاريعَ قوانين تحظر الإجهاض، وتمنع تشريح الموتى، وتفرض غرامات مالية على كلِّ شركة تسوق سلعة أو منتج غير معدٍ حسب تعاليم الشريعة اليهودية، وقوانين لمراقبة من ينتهك حرمة يوم السبت. إنّ الهوة تزداد ما بين المتدينين والعلمانيين وعوامل الاستقطاب المؤدية إلى صراع في ازدياد، وتحمل في طياتها بذور الانفجار، وما يمنع الوصول تلك النقطة ترويج النخب الحاكمة لفكرة كون إسرائيل في حربٍ دائمة مع الفلسطينيين والعرب، لكن الحكومة وإن نجحت في هذا المضمار، لكنها عجزت عن كبح رغبة الطرفين في الانفصال والانعزال، مما يؤشر على فشل "بوتقة الصهر" التي راهنت عليها.[11]
في المحصلة...
رغمَّ كل ما يحمله قانون القومية الجديد من خطر على الفلسطينيين إلاَّ أنه خطوة طبيعية في طريق انزياح إسرائيل نحو الخطر، فمثلما تم ذكره يحمل تناقضات كبيرة يُمكن أن تؤثر وبقوة على المجتمع الإسرائيلي، وتزيد من تصدعاته التي تُحاول إسرائيل دائماً أن تُخفيها عن طريق اصطناع الخوف، ولكن يبدو أن التدافع في داخلها يدفع بالأمور نحو حسم الأمور لصالح تيار على آخر، وهو ما يعني تراجع في الاتفاق على مصلحة الدولة لحساب مصالح شخصية، تتمثل في نتنياهو ومناصريه من المتدينين والفاسدين.
[1] Raoul Wootlife, “Final of Jewish nation-state law, approved by the Knesset on July 19”, The time of Israel, for more information, https://www.timesofisrael.com/final-text-of-jewish-nation-state-bill-set-to-become-law/
[2]عبد الوهاب المسيري، "الصهيونية واليهودية"، حوارات أعدتها سوزان حرفي، دمشق: دار الفكر، الطبعة الأولى، 2009م، ص102.
[3] "قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي"، قانون رقم 20/1337/ف، أنظر مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، https://www.madarcenter.org/%D9%
[4] عبد الفتاح ماضي، "قانون القومية ومحاصرة إسرائيل دولياً"، الجزيرة، 22/7/2018، أنظر الرابط التالي: http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2018/7/22/
[6] يعقوب ملكون، "الثقافة اليهودية العلمانية"، القدس: منشورات التاج، 2005م، ص56.
[7]صالح النعامي، "في قبضة الحاخامات: تعاظم التيار الديني في إسرائيل وآثاره الداخلية والإقليمية"، الرياص: البيان للنشر والتوزيع، 2015، ص78
[8]عزمي بشارة، "دوامة الدين والدولة في إسرائيل"، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 1، العدد، 3، صيف 1990م، ص 24.
[9]عبد الوهاب المسيري، "من هم اليهود وما هي اليهودية"، أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية، القاهرة: دار الشروق، 2009م، ص 345.
[10]صالح النعامي، "في قبضة الحاخامات"، مرجع سابق، ص 360.
[11]المرجع سابق، ص 366.
خطة الشاطئ الأزرق: الرصيف العائم الأمريكي في خدمة أهداف الحرب الإسرائيلية
موقع الضفة الغربية في العدوان الصهيوني على قطاع غزة
في ذكرى نفق جلبوع.. ووهم الوعي المنصهر
المرأة الفلسطينية: تعادل في النسب وتهميش في الدور السياسي
الانتخابات المحلية الفلسطينية: السياقات والدلالات
إسرائيل ورهان الهوية والمواجهة.. ما الذي تغير؟
الانتخابات التشريعية الفلسطينية من المرسوم إلى التأجيل
أزمة الوضع الفلسطيني ومأزق الخروج
ما بين الصحة و الإقتصاد